مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

تحولات الحج عبر التاريخ.. قراءة تحليلية في أبعادها الحضارية والإنسانية والإدارية

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله على المستطيعين من المسلمين. وقد أدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فريضة الحج المشهورة باسم (حجة الوداع)، وهي أول وآخر حجة حجها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع صحابته -رضوان الله عليهم- بعد فتح مكة في السنة العاشرة للهجرة. واستمر الحج آمناً مستقراً في فترة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية، حيث أصبح الحج أكثر تنظيماً فيما يتعلق بتأمين الطرق وتوفير الخدمات للحجاج. على سبيل المثال، في عهد العباسيين، تم إنشاء مراكز لخدمة الحجاج على طول الطرق المؤدية إلى مكة. ولكن في العصور المتأخرة للدولة العباسية كثرت المشاكل والاضطرابات، فواجه الحجاج العديد من الصعوبات والتحديات، منها:
1 - كان على الحجاج السفر لمسافات طويلة جداً للوصول إلى مكة المكرمة، لكون بعضهم يقطع آلاف الكيلومترات سيراً على الأقدام أو باستخدام الجمال والخيول دون دعم لوجستي وحماية أمنية.
2 - كانت الطرق غير معبدة وصعبة العبور، وبخاصة في المناطق الصحراوية الجافة أو الجبلية الوعرة، وكان الحجاج يواجهون تحديات كبيرة مثل العواصف الرملية، والحرارة الشديدة، والبرد القارس، والنقص الحاد في المياه والطعام.
3 - بسبب الظروف أعلاه؛ أصبح الحجاج أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والأوبئة التي كانت تنتشر بسرعة بينهم.
-4 بسبب عدم وجود حماية أمنية واضطراب الأمن؛ تعرض الحجاج لاعتداءات قطاع الطرق الذين كانوا يستهدفون القوافل لسرقة أموالهم وممتلكاتهم.
وقد أدت هذه العوامل إلى نقص حاد في أعداد الحجاج، فمثلاً تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن عدد الحجاج كان يتراوح بين بضعة آلاف إلى عشرات الآلاف سنوياً. فعلى سبيل المثال، في القرن العاشر الميلادي، قدَّر المؤرخ ابن حوقل عدد الحجاج بحوالي 20 ألف حاج. كما ذكر ابن جبير أن عدد الحجاج في القرن الثاني عشر الميلادي حوالي 30 ألف حاج في موسم حج 1183م.
ولكن بسبب الثورة الصناعية خلال القرن التاسع عشر وتقدم وسائل المواصلات وسهولة وسرعة الوصول لمكة، زاد عدد الحجاج سنة بعد سنة، حتى شهدت مكة والمشاعر المقدسة ازدحاماً كثيراً، وشهد العالم أيضاً تفشي العديد من الأوبئة، ومنها الكوليرا، بسبب الظروف الصحية السيئة، وتدني مستوى الرعاية الطبية، مما ساهم في انتشارها السريع بين الحجاج في مكة والمشاعر المقدسة، لهذا أصبح الحج أحد الأحداث التي جذبت الانتباه الدولي بسبب كثافة التجمعات البشرية السنوية في مكة الوافدة من دول متعددة، مما أدى لانتقال الأمراض والأوبئة من مناطق الحج إلى أوروبا ودول متقدمة أخرى، فأدى ذلك إلى تدخل بعض الدول الأوروبية في شؤون الحج لأسباب تتعلق بالصحة العامة للدول الأوروبية. وفعلاً بدأت الدول الأوروبية في ممارسة ضغوط على الدولة العثمانية لتطبيق إجراءات صحية صارمة، ومن الأمثلة على هذا التدخل أنشأت الدولة العثمانية بتشجيع وضغط من الدول الأوروبية الحجر الصحي للحجاج في الكرنتينة بجدة في عام 1831م. وذلك بهدف التعامل مع تفشي الأوبئة والأمراض المعدية بين الحجاج القادمين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج. وهدفت هذه المحاجر إلى منع انتشار الأمراض والحفاظ على صحة وسلامة الحجاج والمجتمع المحلي، والتأكد من سلامة السفن القادمة بالحجاج من الأوبئة قبل السماح لها بعد مضي مدة محددة من تنزيل الحجاج في جدة، وانتقالهم لمكة. وقد أرسلت بعض الدول الأوروبية بعثات طبية إلى الحجاز لتقديم المساعدة الطبية ومراقبة الوضع الصحي، بهدف المراقبة، والحد من انتقال الأمراض إلى أوروبا، وتعزيز التعاون الدولي في مجال الصحة. كما تم عقد عدد من المؤتمرات منها:
1 - تنظيم أول مؤتمر صحي دولي عن الحج، في عام 1866م، في مدينة إسطنبول. إذ عُقد هذا المؤتمر في إطار الجهود الدولية لمواجهة تفشي الأمراض المعدية، خصوصاً الكوليرا، التي كانت تنتشر بين الحجاج نتيجة تجمع أعداد كبيرة من الناس في مكان واحد، وتوافر ظروف صحية غير ملائمة. وقد جاءت هذه المبادرة الدولية نتيجة للقلق المتزايد حول الصحة العامة في ضوء تفشي الكوليرا ومخاوف من انتقال الأمراض عبر الحجاج العائدين إلى بلدانهم. وأسس هذا المؤتمر سلسلة من المؤتمرات الصحية الدولية التي عقدت في القرن التاسع عشر، التي كانت تهدف إلى تحسين الصحة العامة وتنسيق الجهود لمكافحة الأوبئة على مستوى العالم.
2 - انعقاد ثاني مؤتمر صحي دولي عن الحج، عُقد في أوروبا، وكان في مدينة البندقية (فينيسيا) بإيطاليا في عام 1892م. وهذا المؤتمر ضمن سلسلة من المؤتمرات الصحية الدولية التي كانت تهدف إلى مكافحة انتشار الأمراض المعدية، وبخاصة الكوليرا، التي كانت تمثل تهديداً كبيراً للصحة العامة في ذلك الوقت. وقد تناول المؤتمر قضايا الصحة العامة المتعلقة بالحج وكيفية الحد من انتشار الأمراض بين الحجاج، خصوصاً أن الحج يتضمن تجمعات كبيرة من الناس من مختلف أنحاء العالم، مما يزيد من خطر انتشار الأوبئة. وتمت مناقشة العديد من الإجراءات والتدابير الوقائية لتحسين الظروف الصحية للحجاج وللحد من انتقال الأمراض بين الدول.
3 - تنظيم ثالث مؤتمر صحي دولي عن الحج، عُقد في مدينة دريسدن بألمانيا في عام 1893م. وفي هذا المؤتمر تمت مناقشة العديد من الإجراءات والتدابير الصحية لتعزيز سلامة الحجاج، بما في ذلك تحسين الظروف الصحية في مناطق التجمعات الكبيرة للحجاج وتطوير إستراتيجيات فعالة لإدارة الأوبئة.
4 - انعقاد رابع مؤتمر صحي دولي عن الحج، عُقد في مدينة باريس بفرنسا في عام 1894م. وفي هذا المؤتمر، استمر النقاش حول تحسين الأوضاع الصحية للحجاج، وتطوير إجراءات وقائية للحد من انتشار الأمراض المعدية، وضمان سلامة الحجاج من خلال تحسين البنية التحتية للصحة العامة، وتنسيق الجهود بين الدول المختلفة، واستعراض التقارير الطبية عن حالة الحجاج الصحية.
ومنذ تولي المملكة مسؤولية إدارة شؤون الحج، بعد تأسيس المملكة عام 1932م، على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (رحمه الله)؛ انتهت التدخلات الأوروبية في شؤون الحج، بسبب تولي المملكة قيادة المجال الصحي، واتخاذها خطوات تسهم في المحافظة على الصحة العامة للحجاج، وصدور تقرير سنوي يوضح مستوى الصحة العامة في الحج، وقد شهدت بحمد الله نجاحاً وسلامة من الأوبئة والأمراض الفتاكة. وأقامت المملكة استثمارات ضخمة في تطوير البنية التحتية للحج، مثل توسعة الحرم المكي والمشاريع العملاقة في مكة والمدينة والمشاعر المقدسة، مما ساهم في تحسين تجربة الحجاج وزيادة القدرة الاستيعابية في عدد الحجاج من 50,000 في عام 1950م إلى أكثر من مليونين ونصف المليون حاج في موسم 2019م.
وسوف تستمر خطط تطوير خدمات الحج لتحسين تجربة الحج وضمان سلامة وراحة الحجاج في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده رئيس مجلس الوزراء محمد بن سلمان (حفظهما الله)، بما يتماشى مع رؤية المملكة 2030م، التي نشأ عنها (برنامج ضيوف الرحمن) الذي يتمثل دوره في إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المسلمين لأداء النسك والزيارة على أكمل وجه، والعمل على إثراء وتعميق تجربتهم، من خلال رفع مستوى جودة الخدمات المقدمة، وتهيئة الحرمين الشريفين، وتحقيق رسالة الإسلام العالمية، وتطوير المواقع التاريخية الإسلامية والثقافية، وإتاحة أفضل الخدمات لهم قبل وأثناء وبعد زيارتهم لمكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، وعكس الصورة المشرِّفة والحضارية للمملكة في خدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن. وتشهد بنجاح هذا البرنامج الأعداد المتزايدة التي تعلنها وزارة الصحة كل عام من أعداد الحجاج، وكذلك أعداد المعتمرين خلال العام الواحد. إنها نجاحات شهد بها العالم أجمع، تؤكد المكانة العالية للمملكة العربية السعودية وعنايتها بخدمة الحرمين الشريفين وزوارهما.

ذو صلة