مع اقتراب موسم الحج للديار المقدسة، لابد للزائر لمتحف التقاليد الشعبية في قصر العظم التاريخي بمدينة دمشق القديمة أن يتوقف لدقائق في إحدى قاعاته التي تحمل عنوان (الحج الشامي) حيث سيشاهد مشهداً كبيراً داخل القاعة يجسد تقاليد الحج الشامي وبخاصة (المحمل الشريف) والذي ظلّت تقاليده متواصلة في فترة العصر العثماني وحتى أوائل القرن العشرين المنصرم.
ولتقاليد الحج الشامي والمحمل الشريف حكاية تاريخية، حيث كانت العاصمة السورية دمشق في العصور الأموية والأيوبية والمملوكية والعثمانية ملتقى الحجاج القادمين من بلدان آسيا الوسطى والمغرب العربي وشمال أفريقيا وقد تعمقت هذه التقاليد في الفترة العثمانية حيث كان يتم استقبالهم في التكايا والخانات وتقديم الخدمات لهم ريثما يحين موعد انطلاقة موكب الحج بقيادة والي دمشق العثماني والذي أُطْلِقَ عليه لقب أمير الحج منذ عام 1120هـ، ومعه المحمل الشريف القادم من الباب العالي في إسطنبول حيث يضم المحمل كسوة الكعبة المشرفة الجديدة والصرة السلطانية التي تحمل الهدايا إلى مكة المكرمة. والمحمل الشريف الذي انتهى به الأمر في متحف قصر العظم للتقاليد الشعبية بدمشق بعد إلغاء تقاليد الحج الشامي مع بداية الحرب العالمية الأولى في العام 1914م يُعد قطعة تراثية وأثرية قيّمة فهو عبارة عن صندوق هرمي الشكل مغطى بقماش أخضر مكتوب عليه آيات قرآنية كريمة ويُحْمَلْ على (جَمل) أبيض مزين بأقمشة حريرية مزركشة، وللمحمل تقاليد كانت تتم في مناطق وأسواق دمشق بإشراف الوالي العثماني قبل بدء الحج والانطلاق نحو الديار المقدسة وتبدأ بتقليد الدورة للمحمل حيث يتم إخراج المحمل والسنجق النبوي الشريف في موكب حافل بمرافقة العلماء والأعيان والعسكر وأصحاب الطرق الصوفية والفرق الموسيقية وجمهور غفير من الناس حيث يسير المحل يتقدمه أمير الحج أو نائب الوالي منطلقاً من منطقة السنجقدار قرب ساحة المرجة الشهيرة وسط دمشق متجهاً نحو أسواق وشوارع الدرويشية والسنانية والبدوي والشاغور وباب كيسان ومن ثم باب شرقي وحتى شارع النصر حيث قصر العدل ليستقر فيه المحمل والسنجق ويقوم المؤذنون بالإنشاد أمام الجمع الغفير من الناس رجالاً ونساء وأطفالاً وشيوخ وعساكر لتقدم لهم الضيافة الكبيرة والقيّمة في إيوان السرايا، وبعد الدورة التي تهدف كما يؤكد المؤرخون والباحثون إلى الإعلام بالحج وتحريكاً للاشتياق وإرهاباً للأعداء، كان يتم طوي المحمل وتوضع جميع حليّه في صناديق مختومة لترسل مع الهدايا وصدقات السلطان العثماني في الصرّة إلى الديار المقدسة لتوزع هناك على الأعيان والعلماء والشرفاء وفقراء الحرمين الشريفين.
بعد الدورة للمحمل الشريف والتي تتميز بمظاهر احتفالية في دمشق وقبل خروج قافلة الحج كان يصّر الدمشقيون على إضفاء الكثير من التقاليد الجميلة على هذه المظاهر ومنها جلب زيت الحرم النبوي من قرية كفرسوسة (والتي تحولت في الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم إلى إحدى أرقى ضواحي دمشق السكنية) حيث كان الزيت يخزّن في مستودعات بمنطقة البحصة (وسط دمشق) خارج سور المدينة، فيما يجلب الشمع للحرم النبوي وماء الورد من قرية المزة (الضاحية الراقية حالياً جنوب غرب دمشق) ومن غوطة دمشق، ثم تُنْصَبْ راية الحج (السنجق) تحت (قبة النسر) في الجامع الأموي لينطلق الموكب فيما بعد ومعه الحجاج القادمون من البلدان الأخرى حيث يتم التجمع في (حي الميدان) جنوب دمشق ومن ثم يتجه الموكب مباشرة بعد عيد الفطر نحو قرية (القدم) جنوب دمشق ومن ثم إلى منطقة مزيريب في حوران قرب مدينة درعا ليغادر بعدها الموكب ومعه الحجاج في رحلة تستغرق أربعة أشهر في الذهاب والإياب، وبالتأكيد فإن للقافلة مستلزمات حمايتها وخدمتها ورجالها والتي تأخذ تسميات معروفة فإضافة لأمير الحج المسؤول عن القافلة منذ خروجها من منطقة الميدان وحتى مكة المكرمة هناك (أمير الصرّ) الذي يوصل هدايا وصدقات السلطان العثماني وهناك (السقاة السقاباشية) المسؤولون عن تأمين المياه للحجاج في كل مرحلة، و(العكامة) ومهمتهم خدمة الحجاج والحفاظ على أمنهم ومساعدتهم في الحل والترحال والعناية بأمور الجمال، وهناك (الجوخدار) وهو حامل الرسائل من الحجاج والمبشر بسلامتهم، و(المزيربتية)وهؤلاء عملهم يقتصر فقط ضمن الأراضي السورية حيث يرافقون القافلة حتى محطتها الكبرى على ضفاف بحيرة مزيريب في منطقة حوران على الحدود مع الأردن ويعودون إلى دمشق بأخبار الحجاج وتوصياتهم إلى أهلهم، وهناك (أمير الجردة) وهي النجدة السريعة وتضم مجموعة من العسكر لمساعدة الحجاج وحمايتهم عند الضرورة في طريق عودتهم من الديار المقدسة وكما تضم أشخاصاً يقدمون المأكولات الجاهزة والحلويات للحجاج العائدين.
وعند قرب قدوم الحجيج بالسلامة يسبقهم (الجوخدار) الذي يبشر بمَقدم الحجيج فتخرج دمشق عن بكرة أبيها لاستقبالهم وتقام الاحتفالات والعراضة الشامية ورقصات المولوية على مدى عدة أيام وتوزع الحلويات ويقوم الحجيج بتوزيع الهدايا التي جاؤوا بها معهم من الديار المقدسة للأصدقاء والأقارب في طقس احتفالي اجتماعي رائع. كما يغادر حجاج البلدان الأخرى والقادمون مع الموكب إلى بلادهم وأهاليهم بعد رحلة زمنية طويلة تستغرق عدة أشهر حيث كانت هذه الوفود تصل قبل ثلاثة أشهر من انطلاق قافلة الحج الشامي وتأخذ هذه الوفود تسميات حسب المناطق القادمة منها وهي: الحجيج الرومي للقادمين من مناطق ما وراء طوروس والحج العجمي من بلاد فارس والحج الحلبي من شمال سوريا، وكانوا يأتون لدمشق ومعهم بضائع فاخرة ونفائس نادرة للاتجار بها فكانت فرصة لهم للبيع والشراء في دمشق التي تتحول لسوق تجاري حيوي في فترة وجودهم بها قبل بدء موسم انطلاق قافلة الحج، فكان أفراد الحج العجمي يجلبون معهم اللؤلؤ والأحجار الكريمة والأقمشة الحريرية والسجاد، فيما الأتراك يأتون بالشاي والزعفران والتوابل والحناء والكحل.
وكان حجاج دمشق يستقبلهم ذووهم بالعراضة الشامية وفقرات المولوية وبعبارات التهنئة بالعودة بالسلامة من الأراضي المقدسة وإتمام فريضة الحج كما كان الحجاج يستقبلون المهنئين في مضافات خاصة تقام لهذه المناسبة ويتم توزيع علب الحلوى الخاصة بهذه المناسبة والتي يتم تحضيرها في سوق البزورية الدمشقي القديم من خلال حرفيين متخصصين بإعدادها وعادة تكون العلبة من الخشب ومحفور عليها صورة الكعبة المشرفة أو الحرم النبوي ومكتوب عليها (تقبل الله) أو (حج مبرور وسعي مشكور) مع اسم الحاج وأحياناً تكون من الكرتون ومكتوب عليها هذه العبارات بخط جميل.
والمعروف أن الحجيج كانوا حتى بدايات القرن العشرين المنصرم وفي رحلتهم الطويلة للوصول للديار المقدسة يستخدمون الإبل في القافلة، ولكن وفي عام 1908م تم إطلاق الخط الحديدي الحجازي وتسيير أول قطار بين دمشق والمدينة المنورة لتسهيل وصول حجاج بيت الله الحرام، وإشادة مبنى المحطة في منطقة القنوات وسط دمشق. وحمل تأسيسه طابعاً روحياً حيث كانت هذه الرحلات لتوفير العناء عن الحجاج والتي استغرقت 55 ساعة في القطار بدلاً من 40 يوماً لرحلة قوافل الحج التي تنطلق من دمشق إلى الديار المقدسة وأن الكثير من الدول الإسلامية شاركت في إنجاز هذا الخط من خلال تبرعات مالية وذهبية ومواد الإنشاء والبناء.
أمير الحج مسؤوليات ومؤامرات
ينظم أمير الحج قافلة الحجاج ويقودها وهو المسؤول عن نشر رايات ومعايير الحج، وتتضمن مسؤولياته الأخرى إعداد كل التجهيزات والحيوانات المخصصة للنقل، وإنشاء معاهدات الحماية وإدارة الدفعات المخصصة لقبائل البدو الرحل على طول الطريق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وتأمين الماء العذب للشرب وأماكن الراحة على طول طريق الحج وتجهيز احتياجات الطعام والجمال والعناية الطبية لمن يحتاجونها وبهذا يكون منصب أمير الحج مخصصاً لتنظيم المسيرة كاملة من دمشق للديار المقدسة وحثّ الحجاج على التنقل ضمن مستويات الاحتمال المختلفة حتى وصولهم الآمن ولذلك فأمير الحج منصب يتمتع بالاحترام والمسؤوليات بالغة الأهمية.
ولكن لا تخلو مراحل أمراء الحج وهم عادة (باشا دمشق) أو الوالي العثماني أو من يعينه الباشا نفسه من قصص ومؤامرات للحصول على رضا الباب العالي في إسطنبول، خصوصاً أنه كان ينضم لقافلة الحج أفراد من عائلة السلطان العثماني والأفراد المهمون من النخبة العثمانية وبهذا يستطيع باشا دمشق أن يطور علاقات سياسية قوية مع حكومة إسطنبول من خلال نوعية الضيافة المقدمة لهؤلاء الأشخاص النافذين أثناء وجودهم في دمشق ومن ثم رحلة الحج حيث يمكن أن يبعد أمير الحج عن منصبه أو أن يُعْدَمْ إذا عانت قافلة الحج من إصابات غير متوقعة أو فشلت في مهمتها لأن سلامة هؤلاء المشاركين النافذين وشرعية السلطان العثماني الدينية والسياسية تعتمد على نجاح رحلة الحج.