مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

وحدي ودموعي

(الوحدة هي ألا تجد من تخبره بألمك)


فنجان قهوة بارد على طاولة الإفطار وكأنه تتمة لرسائل وصلتني البارحة.
ولوحة سريالية للفنان التشكيلي حسين أبو حسين، اشتراها لي (مجيب) من أحد المعارض التي زرناها سوية، تسقط من علوها وينكسر إطارها.
دب بني صغير أهداني إياه في عيد ميلادي، يختفي وكأنه ماء تبخر في غفلة من الحارس.
ويستقبلني هذا الصباح بهذه القهوة الباردة.
قلبي يحاول فكّ شفرة هذه الرسائل، بعد أن انقبض خوفاً فلم تصلني رسالة صباحية (صباحو) هذا اليوم.
ما الذي تحاول أن توصله هذه الهدايا في هذا اليوم البارد بلا شتاء؟ أم هو الهدوء قبل العاصفة؟
هل يمكن للأشياء أن تحزن أو تتنبأ بحزن قادم؟
فمازال فيروس كوفيد9 (كورونا) يفتك بالناس، ونحن نعيش العزلة تحت قوانين السلامة الصارمة، والخوف من المرض أشدّ فتكاً بالناس من المرض نفسه.
وسط هذا الخوف الجماعي، كان لي خوفي الخاص، لم أكن أعرف أنني سأكون أنا أيضاً في عزلة مختلفة، عزلة المشاعر التي لا يمكن مشاركتها.
مازلت أتأمل حالي حتى سمعت خطوات أمي تتقدم نحوي، وتضع يدها على كتفي، قلبي يزداد نبضه سرعة، فالأخبار تتسابق بأسماء المصابين والراحلين، وكأن الشاعر يصف حالنا:
(مشى الدهرُ يوم الطفّ أعمى فلم يدع
عماداً لها إلاَّ وفيه تعثَّرا).
فالموت زار كل بيوت القرية تقريباً، هنا وفاة أب وهناك أم، وآخرون فقدوا أحد الأقارب أو أكثر.
كنت أنتظرها تتكلم، لم يساعدني جسدي المنهك، وفكري المشتت، وقلبي المرهق أن ألتفت إليها.
أمي: لقد أصيب ابن خالتكم ونقل للمستشفى.
أنا: الله يلطف بحاله، ويلبسه ثوب الصحة والعافية.
سأل أخي من خلفها: حبيب؟
قالت: لا، مجيب.
ليتني لم أسمع الاسم، ليت الأرض ابتلعتني قبل ذلك، حبيبي (مجيب) في المستشفى؟
حاولت بكل ما بقي من قوتي أن أتماسك، وضعت كأس الماء، لكنه اهتز بين أصابعي، أخفيت وجهي بين كتفي، أطبقت شفتي بقوة، لا، لا ينبغي أن أصرخ، ليس الآن، فإن الحبّ الذي يكبر في الظل، يصبح أكبر من أن يُقال، وأصعب من أن يُخفى.
بدأت الدنيا تدور بي وأنا أسمع الاسم يتكرر بين كلمات الدعاء الذي تردده أمي، ماذا أفعل يا ربّ؟
حاولت أن أجاريها وأشاركها الدعاء لكنّ الدموع بدأت تتسلل وتحاول الهرب من قبضة عينيّ.
وقفتُ وغادرتُ مباشرة إلى الغرفة في نفس واحد، وبحركة سريعة قبل الانهيار، وقبل أن يفضحني اصفرار وجهي، وخفقان قلبي، ورجفة يدي.
أغلقت باب الغرفة وجلست على طرف السرير، والأفكار تلعب بي كسفينة تتلاعب بها الأمواج.
أتذكر الأغنية المفضلة لنا (رهيب والله رهيب) بعد أن نستبدل رهيب بمجيب.
أخفيت وجهي في الوسادة، وبدأتْ عاصفة البكاء المخنوق، والدموع التي تنهمر بلا حساب.
فالذي أصعب من الحزن أن تعيشه لوحدك، لا يد تحنو عليك، ولا صدر يعانقك فيخفف عنك وحشة الألم.
إذا كان الحزن سراً، فهل يصبح أفضل، أم أكثر عنفاً؟
تناولت الهاتف واتصلت بصديقتي ثريّا:
بعد تردد وصمت أقول بصوت ضعيف: (أخبروني أن شخصاً أعرفه هناك.. شخص قريب جداً) ثم أنهار باكية.
ثريّا: كوثر، ماذا حدث؟
بين الشهقات يخرج اسم: مجيب.
ثريّا: ماذا به؟
أنا: إنه.. هناك..
ثريّا: أين؟
أنا: هناك..
لم أستطع إتمام الحديث ورميت بالهاتف وعدت للبكاء.
هل سقوط اللوحة، وضياع الدب، والقهوة الباردة، رسائل الرحيل؟
مجيب.. لا تقل لي إنك سترحل. لا تحتمل روحي ألم الفقد يا حبيبي.
أشعر أن الغرفة تضيق، أنفاسي تتباطأ، كأن الحياة نفسها تتراجع خطوة للخلف.. مجيب، لا تختفِ كما اختفى الدب الصغير.
أنظر إلى كتاب اشتراه لي، فتمر بي ذكريات اللقاء الأول: كان يوصلني إلى الجامعة بعد أن تأخرت عن موعد الحافلة، كانت شخصيته لطيفة، وكان حديثه ساحراً، متواضعاً، واثقاً، موسوعياً، وكأنه كما قيل (يعرف شيئاً من كل شيء).
بدأ الميل القلبي استجابة لإشارات الإعجاب (like) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم لعبارات السؤال عن الأحوال، وعرض المساعدة، وقد استقبلت كل ذلك بسعادة غامرة.
مرت أربع سنوات ونحن نلتقي سراً، ونخفي الحب في الحديقة الخلفية للحياة.
لم تكن أياماً تتكرر بل لكل يوم رائحة، ولكل ليلة عبق، ولكل ساعة إحساس، بل لكل ثانية ذكرى لا تشبهها أخرى.
كنّا نتواعد أن نتجاوز الظروف، ونشجع بعضنا أنها أيام وستمضي، وسيجمعنا بيت واحد.
كنت في قرارة نفسي مكتفية منه بالحب، فهو متزوج، وزوجته ابنة عمه، ولديه أبناء، وتخطي هذه الحواجز يحتاج إلى وقت وجهد، وأنا الحلقة الأضعف في هذه السلسلة.
كلما رنّ هاتفه مساءً، كنت أعرف أنها هي، كنت أراه ينظر إلى الاسم، يبتسم ابتسامة صغيرة، ثم يعاود الحديث معي وكأن شيئاً لم يكن.
لم أسأله يوماً.
لم أقل شيئاً.
لكن في كل مرة، كنت أشعر أنني أصغر.. وأصغر، وكانت هناك نار تكبر.. وتكبر.
ذات لحظة صفاء، وكان البحر ثالثنا اعترف لي بحبه العميق، وبدوامة الحيرة التي يعيشها، فالموازنة بين حبّنا وأسرته خطأ.
إنه يحبني بصدق، لكنّ أسرته مهمة عنده، وكنت أعرف ذلك، فحبه حلم أعيشه بكل مشاعري وأحاسيسي، وأعلم يقيناً أن واقعه ليس لي.
في إحدى المناسبات زارتنا زوجته، وعانقتني بحرارة، خجلت من نفسي، ماذا لو علمت بحقيقة ما يحدث من خلفها؟
هل ستسامحني؟
أغلقت باب قلبي أكثر من مرة في وجهه، وهمس عقلي لقلبي: يا قلب دع الرجل لبيته وزوجته، لا تبنِ سعادتك على تعاسة أسرته، لكنّ حصون الممانعة هشة تتحطم بعد لحظات.
***
هل سيموت؟
لا يحتاج الحب إلى صوت ليُقال، ولا يحتاج الفقد إلى صرخة ليكون موجعاً.. لكنني كنت أتمتم في داخلي: مجيب، لا ترحل.
كيف سأبكي في عزاه؟ بكاء القريبة أم الحبيبة؟
وهل يموت الحب عندما يرحل صاحبه، أم يبقى حياً في قلب من لم يستطع البوح به؟
وماذا إن عاد؟
هل سأفرح بسلامته فرح العائلة، أم فرح القلب الذي عاد نبضه؟
مرّت أيام مرضه كالسكين تأكل في جسدي، وكأني المصابة لا هو.
أعتكفت على سجادتي أدعو الله أن ينجو من مخالب المرض، بكيت خوفاً عليه أكثر من بكائي على تقصيري مع خالقي، وأقسمت بيني وبين ربي أن أصوم ثلاثة أيام إن تعافى وخرج سالماً.
وفي الغرفة التي تشغلها الأجهزة الطبية، ويلبس طاقم التمريض كل أقنعة الحماية، أقسم (مجيب) مع ربه أن يتوب ويحترم بيته وزوجه وطفليه.
ماذا عليَّ أن أقول: ليته مات؟ لا.. لا، حفظه الله لأسرته.
فإن الحب السري يمكن أن يبقى خالداً في ذاكرة شخص واحد.. ويمكن للحزن الصامت أن يكون أكثر صدقاً من الحزن الذي يُقال بصوت عالٍ.. أما النسيان، فإنه لعبة مرة، وصعبة، ومؤلمة، وقاسية للغاية.
بعد شهرين تقريباً اغتنمت فرصة حلول شهر رجب ووفيت بنذري، ليس حباً في سلامته لكن لأن الله يستحق الشكر، وبعد أن أفطرت في اليوم الثاني، التفتُ لوميض الجوال ينبئ عن وصول رسالة، أفتح الجوال، أقرأ الاسم (ميمي)، أهمس: ماذا يريد؟
أفكر قليلاً: يا كوثر، كنتِ تعيشين الحب في مساحة سرية، بعيداً عن الواقع، تتغذين على اللقاءات الخفية والوعود المؤجلة، لكنك الآن تدركين أن الحب ليس مجرد مشاعر دافئة، بل مسؤولية وتحديات، وأن الحب الذي لا يجد طريقاً للنور محكوم بالمعاناة.
كنتِ ترين حياتك مرتبطة بمجيب، حتى دون أن يكون هناك وعد واضح بالمستقبل، أعيدي النظر في ذاتك، وابدئي رحلة اكتشاف ما تريدينه حقاً لنفسك، وليس فقط ما يريده الحب.
لقد قضيتي سنوات في الانتظار.. انتظار لقاءات سرية، انتظار فرصة قد لا تأتي، انتظار مصير لم يكن بيدك، الآن يجب أن تدركي أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع، ويجب أن تكوني فاعلة في تحديد مسارك بدلاً من ترك الأمور للمجهول.
مررتُ بإصبعي على شاشة الهاتف، ترددتُ للحظة.. هذا الاسم كان يوماً يضيء قلبي قبل أن يضيء هاتفي.. نظرت للرسالة، ولم أشعر بالفرح، لم أشعر بالحنين، فقط شعرت أنني لستُ تلك الفتاة التي كانت تنتظر، لم أعد أنتظر.
كم مرة كنتُ أبرر له؟ كم مرة قلتُ إن الحب عذر كافٍ لكل شيء؟ لكن الحب ليس أعذاراً، الحب وضوح ومسؤولية، وأنا كنتُ عالقة في مساحة لا تخصني.
رفعتُ عيني إلى الدب الصغير الذي كان يوماً رمزاً لحب مختبئ.. اقتربتُ منه، سحبته من خلف الدولاب، مررتُ أصابعي عليه، ثم وضعته في صندوق مغلق، كما وضعتُ هاتفي جانباً، وحذفتُ الرسالة، ليس لأنها لا تعني لي شيئاً، بل لأنني لم أعد أحتاجها.

ذو صلة