مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

دروب الحرير.. أسفار النساء العربيات بين الماضي والحاضر

في عام 1010م تقريباً اكتملت (شاهنامة فردوسي) وخرجت للنور، وكان من ضمن ما جاء فيها حكاية شيرين وخسرو، التي نظم عنها الشعراء الفرس بعد فردوسي القصائد، وتفنن الرسامون بتصوير مشاهدها في المنمنمات. نظامي الكنجوي مثلاً كتب حكاية (شيرين وخسرو) في 6500 بيت تقريباً، شيرين الأميرة الأرمينية التي سافرت وحدها ممتطية فرسها للالتقاء بحبيبها المستقبلي الذي لم تره من قبل إلا في الصور، الأمير الفارسي خسرو. سفر شيرين وحدها على صهوة جوادها، في ذلك الزمن، كان جرأة تدعونا للتفكر: هل كان سفر النساء في هذا العصر، وحدهن، مستساغاً؟
التراث المحكي العربي مليء بقصص سفر النساء، لعل الأميرة ذات الهمة في سيرتها الشهيرة أبرز الأمثلة على تنقل النساء بلا خوف بين البلاد في الحكايات العربية، وزنوبيا ملكة تدمر التي قادت جيش زوجها وقامت بغزو مصر في تحد سافر لروما التي كانت تسيطر على مصر في تلك الفترة، ويذكر القرآن الكريم سفر ملكة سبأ من بلادها إلى مملكة النبي سليمان، بعد أن أرسل في طلبها وأحضر عرشها قبل وصولها إليه، ووضعه في قاعة من زجاج سابحة على ماء البحر، وهجرة مريم العذراء بالسيد المسيح من بيت لحم إلى مصر، وحتى أن ألف ليلة وليلة مليئة بقصص السفر التي تنقل فيها الرجال والنساء أحياناً بين البلاد والبحار والجبال، كقصة حسن البصري وأميرة الجان ذات رداء الريش، الذي ما أن ارتدته حتى تمكنت من الطير بجناحاتها والسفر نحو بلادها، جزر الواق واق، لكن تبقى شهرزاد هي المسافر الأهم في الليالي، ولو كان سفرها كله عبر الكلمات.
لكن تبدو فرص سفر النساء وحدهن على أرض الواقع في قرون الإسلام الأولى شحيحة مقارنة بالخيال، بل إن أغلبها قد اقتصر على رحلات السفر لأداء فريضة الحج، فالتاريخ يذكر سفر زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد إلى الحج، والتي لم تفوت فرصة دخول التاريخ بعمل يُخلّد ذكرها، فأنشأت العديد من القصور والحصون، بالإضافة إلى نحو أحد عشر منزلاً ومحطة راحة على طريق الحج، زودتها بآبار وأحواض المياه. ويروي الفاكهي في كتابه أخبار مكة، أن السيدة زبيدة التي قامت برحلة الحج سنة 211هـ (826م) قد أمرت بإنشاء غرفة سفلية وأخرى علوية، على إحدى البرك التي أقامتها بالمعلاة بمكة، يقيم في العلوية القائم على البركة، والذي كان يتولى حراستها وصيانتها.
وقد ذكر الإمام أبو إسحاق الحربي في كتابه المناسك، المواقع التي أنشأتها السيدة زبيدة أم جعفر على الطريق، والذي استحقت بعد ذلك أن يحمل اسمها (درب زبيدة)، فيُعدد المحطات، ومنازل وقصور الراحة، والمساجد، والتي مدت جميعها بالمياه على غرار البرك والأحواض والصهاريج والآبار. ويقول الحربي إن أغلب تلك المنشآت كانت على شكل دائرة، فيصفها على حد التعبير: (بركة زبيدية مدورة ولها مصفاة)، بل إن البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد) يؤكد أن السيدة زبيدة بلغت من الاهتمام بتعمير هذا الطريق درجة أنها أنفقت في إحدى رحلاتها لمكة (أربعة وخمسين ألف ألف) خلال ستين يوماً فقط.
ومن بعد زبيدة، سافرت السلطانة المصرية شجر الدر سنة 648هـ للقيام برحلة الحج براً عبر طريق سيناء، وبجانب ارتباطها بطقس المحمل المصري، كونها أول من أخرج كسوة الكعبة في موكب المحمل وهي خارجة لأداء فريضة الحج، يدون التاريخ أيضاً أنها أمرت بإجراء إصلاحات في الطريق، وحفر الآبار على طول درب الحاج المصري، ولم تكتفِ بهذا، بل قامت بتوزيع الهدايا على من قابلتهم في طريقها من الأعراب، وهكذا أعادت شجر الدر الحياة لطريق الحج السيناوي، كونها أول من أعاد استخدامه من السلاطين المصريين.
وتذكر الأخبار أن خوند طغاي، زوجة السلطان الناصر محمد بن قلاوون كانت تخرج للحج، فيذكر الجبرتي في كتابه عجائب الآثار أن القاضي كريم الدين الكبير قد حج بها مرة في عام 721هـ، ومن أجل رحلة حج مريحة، حملت لها البقول في حاويات من الطين على ظهور الجمال، بل وسيرت لها الأبقار الحالبة طوال الطريق لأجل اللبن وعمل الجبن، فيقول: (فخرجت من القاهرة في ثامن شوال، وكان يوماً مشهوداً، فخرجت في محفة زركش، وصحبتها الكوسات والعصائب السلطانية، فحجت، ورجعت إلى القاهرة في عاشر المحرم، فلما وصلت إلى بركة الحاج، نزل إليها السلطان، وتلقاها، ودخلت في موكب عظيم والأمراء مشاة قدام محفتها حتى طلعت إلى القلعة). ويذكر القلقشندي في صبح الأعشى أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون قد كتب لخوند طغاي مكتوباً حينما توجهت لأداء فريضة الحج، جاء فيه: ضاعف الله تعالى جلال الجهة الشريفة العالية، المعظمة المحجبة، المصونة الكبرى، خوند خاتون، جلال النساء في العالمين، سيدة الخواتين قرينة الملوك والسلاطين، ثم دعا لها. كما يذكر الجبرتي أن الأمير بشتاك قد حج بها مرة أخرى في عام 739هـ.
لم تكن خوند طغاي هي الوحيدة من بين زوجات سلاطين وأمراء المماليك التي يذكر التاريخ رحلات حجهن، فمن بين الخوندات كانت خوند بركة، زوجة الأمير ألجاي اليوسفي وأم السلطان الأشرف شعبان، والتي حجّت إلى مكة في عام 770هـ، فيذكر ابن آياس في بدائع الزهور خروجها للحج قائلاً: (فخرجت من القاهرة في تجمل زائد، والأمراء مشاة قدام محفتها، ورسم السلطان أن العصائب السلطانية والكوسات يخرجوا صحبتها، وسافر صحبتها من الأمراء المقدمين أربعة، ومايتين مملوك من المماليك السلطانية، وكان لها يوم مشهود)، ويُقال إنها حملت في حجها هذا مئة بعير تحمل البضائع والخيرات لأهل مكة، وعُرف عام خروجها للحج بعام أم السلطـــان.
وبجانب السفر من أجل أداء فريضة الحج، سافرت النساء من أجل الزواج، ولعل قطر الندى بنت خماروية بن أحمد بن طولون، التي تزوجت من الخليفة العباسي المُعتضد، هي أشهر من سافرت من بلدها لبلد زوجها، ليس لأنها أميرة فحسب، بل من أجل الحكايات التي تناقلتها العصور عن جهازها، والترف الذي أحاط رحلتها من القطائع حتى بغداد، فبالإضافة لجهازها الذي تعجز الوصوف عنه، فقد بنى خماروية لابنته قطر الندى أسماء قصراً في كل نقطة استراحة على طول الطريق الطويل بين القطائع وبغداد، بحيث يكون كل قصر هو نسخة مصغرة من قصر والدها في القطائع، لا ينقصها فيه شيء ولا تشعر بين جدرانه بالوحشة، فتشعر في كل قصر تنزله أنها لم تُفارق قصر والدها قط. ويعرض ستانلي لين بول في كتابه تاريخ مصر في العصور الوسطى، جزءاً بسيطاً من وصف قافلة قطر الندى أسماء بنت خماروية، فيقول: (اشتملت بائنة الخليفة على مليون درهم، وعطور نادرة من الصين والهند، والعديد من الأشياء الثمينة، هكذا حملت العروس من مصر إلى العراق، حيث بُني لها على طول الطريق قصراً على رأس كل منزل تنزل فيه في كل ليلة، اشتمل على كل وسائل الترف الممكنة. أما بائنتها فقد اشتملت على أربعة آلاف نطاق مُحلى بالمجوهرات، وعشرة صناديق حديدية للنفائس من المجوهرات، وألف هاون من الذهب لدق عطور زينتها الرفيعة).
والمتأمل في سفر النساء، يجد أنه كان خيراً على الطرق، فقد عمرن الدروب ما بين بلادهن ووجهة سفرهن، ونشرت أياديهن البيضاء الهدايا والعطايا، فدرب زبيدة لا يزال شاهداً على مرورها الكريم أثناء حجها، وطريق الحج السيناوي عادت له الحياة بفضل شجر الدر، ومن أجل راحة قطر الندى شُيدت قصور في طرق السفر، وغمرت الهدايا أهل مكة عندما جاءت إليها أم السلطان شعبان حاجة لبيت الله.
وهكذا يبدو أن معضلة سفر المرأة وحدها قديماً كانت بسبب المشقة أكثر من كونها نابعة من العادات والعيب، وربما لهذا لم نجد أدباً للرحلة مكتوباً بأقلام عربية ناعمة في تلك الفترة، فالأدب الحديث يحظى بوجود أقلام نسائية تُعبر عن نظرتها للعالم والسفر من خلال كتب تتناول أدب الرحلة، ككتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد (رحلة الشرق والغرب)، وكتاب (للجنة سور) للكاتبة المصرية مي التلمساني، و(شهرزاد ترحل إلى الغرب) الذي تناولت فيه فاطمة المرنيسي الفوارق الثقافية، ونظرة الغرب القاصرة للمرأة الشرقية، من خلال تنقلها بين العواصم الأوروبية، بل إن هناك كاتبات عربيات يكرسن أقلامهن من أجل الكتابة عن الرحلة، مثل شيرين عادل.

ذو صلة