عندما زار الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان، العاصمة الروسية موسكو في عام 1988، وتجول في محطات ميترو المدينة، دفعه سحر المكان للقول: إنه أعجوبة من عجائب الدنيا!
ستوافق الرئيس السابق رأيه، بمجرد البدء بواحدة من أجمل رحلات العالم تحت الأرض، رحلة تفرش لك طرقاً إلى الأبهة والفخامة في أبرز صورهما، تُدخِلُك قصوراً مشغولة على الطراز البيزنطي، مزدانة بتماثيل الرخام والبرونز، مطعمة نوافذها بالزجاج الملون والفسيفساء، وتتركك وجهاً لوجه مع لوحات فنية تنبض بالحياة، وصور لقادة وشخصيات تاريخية وأدبية، شغلت العالم يوماً، وحُفِظت حكاياتها على ألسنة الناس، وفي بطون الكتب.
منظومة ضخمة من الفضاءات المعمارية، مع ساحات وشوارع حقيقية، تضعك أمام مدينة ثانية، رديفة للعاصمة المتألقة، تنام تحت الأرض، وتخبئ الكثير من السحر والمفاجآت لزائريها، موضحةً لك سبب فخر الروس بمنجزهم الأعجوبة، ودافعة إياك لإلقاء تحية تقدير على صور العمال والمهندسين الذين قاموا ببناء الميترو، وحظيوا بشرف الرحلة الأولى عبر أنفاقه.
ذاكرة وأدوار متعددة
يمتد الميترو اليوم إلى أكثر من ثلاثمئة كيلومتراً، مع مئة وثمان وثمانين محطة بنيت في عهد ستالين، وأطلقت عليها تسمية: قصور الشعب، وزينت بلوحات لعامة الشعب في الحقبة السوفيتية، من العمال والطلاب والجنود والفلاحين.
تمر أغلب خطوط المترو تحت الأرض. لكن ثمة محطات مقامة على جسور معلقة فوق نهر موسكو.
كما أن للميترو في الذاكرة الشعبية الروسية حضوراً خاصاً، ففي فترة الحرب العالمية الثانية، استخدمت محطاته كملاجئ لحماية السكان من قصف المدافع والطائرات الألمانية، وتغيرت أسماء بعض المحطات لعدة مرات تبعاً للتغيرات السياسية في روسيا.
لا يتوقف الميترو عن العمل إلا لبضع ساعات ليلاً، مما يجعله مقصداً للكثيرين، وبخاصة في شتاءات موسكو الباردة، التي يتعذر فيها السير في الشوارع، فيتنقل أهل المدينة وضيوفها بين خطوطه، متأملين اللوحات الفنية المعلّقة في بعض العربات. إضافة إلى احتضانه الكثير من المعارض الفنية ومعارض التصوير الفوتوغرافي، حيث يكفي شراء بطاقة الميترو لرؤية المعرض، والتمتع بلوحاته.
حقائق وأساطير
ستقرأ الكثير من الحقائق والأساطير المتعلقة بالميترو، وأنت تتنقّل بين المواقع الروسية، من مثل أنه تم نقل جميع المنحوتات الخاصة بمحطة ساحة الثورة إلى آسيا الوسطى خلال الحرب العالمية الثانية، وأن محطة براغ هي المحطة الأكثر هدوءاً، ومحطة كامسامولسكايا على الخط الدائري، هي الأكثر فخامة، مع الاحتفاء بوجود نافورة ماء في محطة روما، والروس بالمناسبة شعب يمتلك عشقاً طفولياً لنوافير الماء.
ومع مواصلة الاطلاع، ستصل حتماً إلى حكايات أكثر جاذبية، من مثل محبّة الميترو للظهور في الأفلام، مما يرتفع به إلى مصاف النجوم السينمائيين، ويطبع أفلاماً كثيرة بمشاركة محطاته.
تحت هذا العنوان، ستجد نفسك أمام قائمة طويلة من كلاسيكيات السينما السوفييتية، مثل فيلم الغرانق تطير، لمخرجه ميخائيل كالاتازوف، من إنتاج عام 1975، وبطولة النجم ألكسي باتالوف.
في قصة الحب الكبيرة هذه من زمن الحرب، يظهر الميترو ممثلاً بمحطة حديقة أليكساندر.
وفي فيلم آخر لا يقل شهرة عن سابقه، ونقصد به فيلم المخرج فلاديمير مينشوف (موسكو لا تؤمن بالدموع)، من إنتاج عام 1979، وبطولة باتالوف أيضاً، وهو قصة شاعرية ظهرت ضمن أحداثها محطة ميترو نوفاسلابادسكايا.
أما الفيلم الذي يحفظ الجميع في روسيا الأغنية التي تحمل عنوانه: أنا أتجول في موسكو، فهو فيلم عن الشباب والحب والأصدقاء في موسكو، أخرجه جورجي دانيليا في عام 1963، وشاركت فيه محطة ميترو الجامعة.
كما ستستمتع بحكاية مسرحها محطة ميترو ساحة الثورة على الخط الأزرق، وبطلها تمثال برونزي لحارس الحدود مع كلب، وهو من تصميم النحات الروسي المتميز ماتفي مانيزير 1891 - 1966.
تكمن القصة في لمس الكثيرين لأنف الكلب طلباً للحظ، ومن غير المعروف من أول من بدأ هذا الطقس، لكن هناك من يعتقد أن طلاب جامعة موسكو الحكومية التقنية، القريبة من المحطة، هم أول من بدأ بلمس أنف الكلب، وحتى الآن تجدهم يقفون في طوابير لممارسة هذا الطقس، ومن بعده يصبحون مستعدين لتقديم امتحاناتهم الجامعية متأكدين أن الحظ لن يبتعد عنهم.
هذا التقليد المستمر منذ أكثر من ثمانين عاماً، يهدّد - كما يقول أهل الاختصاص- بإصابة المنحوتات بأضرار لا يمكن إصلاحها، إذ يتم لمس الأنف مرة واحدة كل عشر ثوان تقريباً.
هناك من يرى أن محبة الناس لتمثال الكلب، ربما تعود لكون النموذج مأخوذاً من كلب الراعي الألماني، وتحديداً من أنثى كلب كانت تسمى إيرما، فازت في العديد من معارض الكلاب، وحصلت على عدّة ميداليات، وتم الاحتفاظ بصورها، علماً أنها ماتت في عام 1940.
أما أسطورة الميترو الأكثر رواجاً، فتتعلق بخط الميترو الدائري، الذي يعد الخط الأكثر فخامة في ميترو موسكو، وكل محطة فيه عبارة عن قصر لا يشبه قصور المحطات الأخرى.
يبلغ طول الخط الدائري 19,4 كم، واكتمل بناؤه في أعوام 1950 - 1952 و1954.
تقول الأسطورة إنه تم وضع مسار الخط الدائري على طول محيط فنجان قهوة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين.
فبعد أن وصلت الرسوم التخطيطية إلى ستالين، وضع فنجان قهوته مقلوباً على الرسم، ثم قال: (ابنها بهذه الطريقة! هذا ما ينقصك!).
كما لعب لون القهوة البني دوراً مهماً، ففي المخطط التجريبي كان مقرراً أن يكون الخط الدائري باللون الرمادي، لكنهم اختاروا اللون البني في النهاية كونه أكثر إشراقاً.