شكّل ظهور الأدوات الحديدية لأول مرة في السودان القديم منذ فترة نبتة بنهاية القرن الثامن قبل الميلاد نقلة كبيرة في المجتمعات المحلية. وقد قدمت مملكة مروي (300 ق.م - 350 م) أولى الدلالات على تعدين الحديد في السودان القديم، حيث أشارت أكوام خبث الحديد الأثرية إلى صهره وحدادته بالعاصمة مروي (Garstang et al. 1911). استمر عمل الحديد حتى فترة ما بعد مروي إلى القرن السادس الميلادي وأظهر التاريخ الثقافي أن استمرارية حرفة الحدادة قد شكلت عنصراً مهماً في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع السوداني خلال العصور الوسطى.
قدمت الأعمال الأثرية والتجريبية في مدينة مروي بالإضافة إلى الدراسات الأنثربولوجية الكثير من المعلومات حول التاريخ الثقافي لهذه التقنيات بالإضافة إلى وصف دقيق لبدايات صهر الحديد وحدادته (Tylecote 1970; Trigger 1969; Arkell 1961; P L Shinnie and Kense 1982; Humphris and Rehren 2014). ساعد استخدام التقنيات الحديثة في العثور على وتسجيل عدد 34 كوماً من خبث الحديد متفاوتة الأحجام في محيط مدينة مروي (Carey et al. 2018) (لوحة رقم 1) وأشارت تحاليل العينات إلى أن عمل الحديد قد بدأ في القرن السادس قبل الميلاد في المدينة (P. L. Shinnie 1971,94). ويتفق كل من سايس (Sayce 1912,55) وشني وكنس (P L Shinnie and Kense 1982,18) أن حجم أكوام خبث الحديد في مدينة مروي تشير إلى إنتاج كميات كبيرة من معدن الحديد. وأشارت الدراسات المعملية إلى أن المرويين قد تمكنوا من تحويل الحديد المطاوع إلى حديد صلب (Rehren 1995,23)، وبينما شككت الدراسات الميدانية حديثاً ( Humphris and Rehren 2014) في حجم إنتاج الحديد في مملكة مروي، إلا أن توزيع الأدوات الحديدية جغرافيا في هذه الفترة أثبتت غير ذلك من خلال التوزيع والانتشار الواسع للقطع الحديدية في مواقع مملكة مروي ومواقع ما بعد مروي بالإضافة إلى عدد من الأدوات الحديدية خلال فترة نبتة (Ali 2008) (لوحة رقم 2). بجانب تصنيع الفخار والطوب، ومصنوعات محلية أخرى والسلع المستوردة الفاخرة فمن المرجح أنها قد لعبت دوراً كبيراً في الحياة اليومية لدى المرويين في تلك الفترة. وتشير وظائف هذه المواد إلى دعمها للجوانب الاقتصادية، مثل الزراعة والعمارة بدليل الأدوات الزراعية وأدوات قطع الصخور كالمعزقة والأزاميل، بالإضافة إلى إنتاج أدوات زينة من نفس المعدن، مثل الخلاخل والأقراط والأساور التي وجدت في العديد من مواقع الاستيطان والمقابر (Ali 2008; Edwards 2004,141–181).
على الرغم من استمرارية عمل الحديد في نفس المواقع المروية -بعد انهيار مملكة مروي سنة 350 ميلادية- إلا أن الأدلة الأثرية أشارت إلى انتشار عمل الحديد في شمال السودان في منطقة مساوي (Ali 2008) وأكوام كبيرة لخبث الحديد في منطقة جبل الحرازة في كردفان وصواني الصنقر (Ali 2008; Edwards 2004,252) (لوحة رقم 3) ويرجح تاريخها حسب المعثورات الأثرية إلى فترة ما بعد مروي (Ali 2008).
أشارت الدراسات الأنثربولوجية (Haaland et al. 2002) إلى استمرارية ممارسة صهر وحدادة عمل الحديد حتى خمسينات القرن الماضي في دارفور. فعلى الرغم من أن الحدادين كانوا مدرجين ضمن قائمة الطبقة الاجتماعية الدنيا خلال فترات العصور الوسطى إلا أنهم كانوا ينتجون أدوات حديدية لها مدلولاتها وأهميتها السياسية والاقتصادية، وارتبطت ارتباطاً قوياً باستمرارية وجود هذه المجتمعات. اعتبر الحديد في تلك الفترات مصدراً مهماً للتعبير عن القوة السياسية والاقتصادية، ففي ممالك السودان في العصور الوسطى أُعطي الحدادون مكانه خاصة باعتبارهم جزءاً من عملية التبادل ونظام إعادة بالنسبة للدولة. فقد كان عليهم إنتاج أكبر كمية من الأدوات والأسلحة الحديدية وتقديمها للسلطة المركزية ليعاد توزيعها للقوات العسكرية والمزارعين. وتفسر المكانة الاجتماعية بالنسبة للحدادين هنا لمنع الاختلاط بهم أو الانخراط في صناعة الحديد.
استمرت مهنة الحدادة كواحدة من أهم الحرف اليدوية التي انتشرت في السودان ولها دور اجتماعي واقتصادي في جميع مناطق السودان. أجرى الباحث عملاً ميدانياً أثنوغرافياً بمنطقة قرية كبوشية جنوب مدينة مروي القديمة لدراسة الاستمرارية التاريخية لعمل الحدادة والحدادين، واتضح من خلال الدراسة أن العديد من الحدادين يمتهنون هذه الصنعة في المجتمعات الحديثة (لوحة رقم 4). وعادة ما يمتهنون هذه الصنعة منذ الصغر ويتعلمونها من ذويهم حيث يتنقلون معهم ويتدربون على الصنعة من خلال المشاهدة والممارسة والإشراف من قبل الأب أو الأخ، وهي مهنة شاقة تخص الرجال دون النساء. تكمن عملية الحدادة حديثاً في عملية التسخين البدائي للحديد لإعادة تشكيلها أو تجويد أدائه مثل الآلات الحادة التي تستخدم يومياً كالأدوات المنزلية (السكاكين) أو الأدوات الزراعية أو صناعة هذه الأدوات من بقايا قطع الحديد القابلة للتدوير؛ حيث يتم بيعها في السوق مرة أخرى للحصول على مقابل مادي. يشكل هذا العمل مصدر دخل رئيسي بالنسبة للحدادين وأسرهم وعادة ما يستقر الحداد في مكان واحد ولكن في المناطق الطرفية والقرى عادة ما يتنقل بينها من أجل الحصول على خردة الحديد أو صيانة وإعداد الأدوات الحديدية وبيعها. ولتجويد معدن الحديد لتصنيع أدوات معينة، مثل أدوات القطع الجيدة كالساطور والإزميل يلجأ الحداد إلى تحويل الحديد المطاوع إلى حديد صلب. وقد أثبتت هذه الدراسة الميدانية الأثنوغرافية العملية البسيطة التي يمكن أن يقوم بها الحداد للحصول على حديد صلب بطريقة بدائية سهلة وغير معقدة. توجد طريقتان يقوم بهما الحداد للحصول على الحديد الصلب. تتم الطريقة الأولى عن طريق تسخين القطعة الحديدية بدرجة حرارة عالية دون درجة الانصهار، ومن ثم تبرد القطعة مباشرة داخل ماء وتغرس بعد ذلك في التراب، وتكرر هذه العملية لزيادة كمية الكربون بالقطعة الحديدية. أما إذا وصلت القطعة درجة الانصهار فإنّها تتطاير في شكل حبيبات ملتهبة. أما الطريقة الثانية فتتم بنفس الطريقة الأولى، ولكن تبرد القطعة بعد التسخين في زيت بدلاً عن الماء، وتعدّ هذه الطريقة عند الحدادين أفضل من الطريقة الأولى في الحصول على الحديد الصلب. وعلى كل فقد دلت عملية الحدادة على استمرارية استخدام التقنيات القديمة للحصول على حديد صلب.
عموماً فقد شكلت هذه التقنيات مصدراً مهماً لدراسة التاريخ الثقافي والاجتماعي للمجتمع السوداني. فقد مثلت حرفة صهر الحديد وحدادته عنصراً جوهرياً في الموروث الثقافي السوادني عبر التاريخ. فعمل الحديد يحمل في طياته رموزاً ودلالات تعبر عن المعتقدات والأنماط الحياتية للحدادين كجزء من المجتمع السوداني وتفاعله مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاستفادة من الموارد التي توفرها البيئة المحلية. تساهم هذه الحرفة بشكل مباشر في تعزيز الارتباط بالهوية الثقافية من خلال عملية تعلم مهارات المهنة واستمرارها لأجيال متعاقبة. تعزز هذه المهنة الاقتصاد المحلي ودعم المجموعات الحرفية وتساهم بشكل مباشر في خلق توازن بين الحفاظ على التراث وتحقيق التنمية المستدامة.