مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

بلاط الأصدقاء

باعتقادي أننا جميعاً بصفتنا مثقفين وقراء، نعلم جيداً المنزلة الأدبية والفكرية التي يمثلها رجل بمكانة عباس محمود العقاد، فكُتُبه ومؤلفاته ما زالت تتحدث عنه وتبصر الأجيال المتعاقبة بقيمته، ويصعب نسيان اسم كهذا طالما أنه ترك لنا هذا الإرث المعرفي العظيم الذي شرف المكتبات بوضعه على أرففها، ويُسَر أي كاتب بالحديث عنه، أو ذكر بعض من سيرته العطرة التي تغني أي مقال أدبي وتمنحه قيمة معينة.

أردت بالحديث عن العقاد أن أضيء على سيرته بصفته صحافياً، حيث يَذكر أنه فرح يوم كان عمره تسعة عشر عاماً بإجراء حوار مع القائد سعد زغلول حين كان وزيراً للمعارف في عام 1908م. وقام بنشر هذا الحوار في صحيفة (الدستور)، ثم استمر بعد ذلك في كتابة المقالات الصحفية أيام معاركه الشرسة مع أحمد شوقي، وذلك بعد تبنيه فكره الجديد الذي استدعى تركه الوظائف الحكومية والتفرغ للأدب والصحافة، وقد نشر مقالاً عنوانه (الاستخدام رق القرن العشرين)، دعا فيه إلى ترك الوظائف الحكومية، منطلقاً من وقتها إلى بلاط صاحبة الجلالة، كاتباً متفرغاً في صحيفة (الدستور) قبل إغلاقها، ومتعاوناً بعد ذلك مع كل الصحف بالمراسلة، ليخلد لنا التاريخ حضوره الجميل على منابر الصحافة، وليحكي لنا ما كانت تمثله الصحف وأعمدتها ومقالاتها المتنوعة من قيمة أدبية وفكرية وثقافية لا تقل روعة وثراءً عن كتب هؤلاء الجهابذة، ومنها يمكننا إدراك قيمة ذاك العصر على المستوى الثقافي والأدبي.
بالطبع لم يكن العقاد حالة فريدة من نوعها، وإنما كان غيضاً من فيض، فأعمدة الصحف في ذلك الزمن الجميل كانت تتصدرها مقالات أدباء ومفكرين لا يمكننا إلا أن نقف إجلالاً واحتراماً لهم. فطه حسين الذي لُقب بعميد الأدب العربي، كان واحداً من الذين نلتقي بهم على أعمدة الصحف ونعانق أحرفهم، كانت بداية انطلاقته في كتابة المقال الصحفي من صحيفة (الجريدة)، مع صديقه أحمد لطفي السيد الذي استكتبه وحاول إخراجه من جنس الشعر -ولم يكن يحسن غيره- إلى عالم النثر، واستجاب له بعد إلحاح، وبعد مطالعته لما كان يكتبه أحمد لطفي نفسه من مقالات دورية، الذي هو أستاذ في كتابة المقال الصحفي، فكان أن وجد فيه ضالته بعد إتقانه هيكل البناء المقالي، إذ علم ما يحتاجه هذا البناء من وضوح في الفكرة، وسلامة في ألفاظ اللغة وتراكيبها، مع بساطتها، والابتعاد عن المحسنات البديعية المبالَغ فيها، والتدرج في إقامة الحجة والدليل، والمفارقة التي ينهي بها مقاله، والاستهلال التي ينفذ من خلاله، وعدم حاجته لقافية ووزن وموسيقى شعرية تقيد حركته وتعيبه.
وظف حينها طه حسين كل ما تعلمه من فنون الكتابة المقالية للسخرية والانتقاص من كاتب يُعد علماً من أعلام الثقافة والفكر والأدب حتى وقتنا الراهن، وهو مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي انتهج هو أيضاً في ذلك الوقت الكتابة الصحفية، بدءاً بصحيفة المؤيد الذائعة الصيت، التي اتخذها وسيلة للتعبير عن أفكاره الثورية، وكان قد قام بنشر أعظم كتبه (النظرات) على هيئة مقالات أذيعت من خلال هذه الصحيفة التي دُشنت في عام 1889م. على يد الشيخ علي بن أحمد بن يوسف البلصفوري الحسيني، الشهير بالشيخ علي يوسف.
لقد كان الشيخ علي ومن يستكتبهم يعمدون لمهاجمة الإنجليز والرد على ما يُنشر في ذلك الوقت في صحيفة (المقطم) التي أنشأوها وجعلوا منها بوقاً دعائياً لهم. لذلك، عُد المنفلوطي عند البعض الصوت الوطني الحر الذي تصدى للإنجليز من خلال نشره قيمَ الفضيلة والأخلاق، وبيان عوار الثقافة الإنجليزية المستحدثة التي أرادوا تأطير المجتمع عليها. والشاهد هنا أن طه حسين، في نظر من يخالفونه، وُظف لمهاجمة هذا الصوت الجميل وكل من ينادي بأسلمة المجتمع، واتهم بأنه أخذ منحى المستشرقين، وكان أداة طيعة في يد المستعمرين الإنجليز، ولاحقاً ارتمى في أحضان الفرنسيين، وقد استندوا في اتهامهم له إلى دخوله في معركة كبيرة مع الأزهر، دارت رحاها على أعمدة الصحف، بعد نشره كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي)، وما تضمنه من وجهات نظر استثارت الكثيرين حين وجدوا فيها مغالطات وافتراءات دفعتهم لمهاجمته، ولاسيما أنه خرج من إطار الشعر إلى الدين، فاعتبروا تشكيكه في نسب الشعر الجاهلي منفذاً للتشكيك في السنة النبوية والمرويات الإسلامية التاريخية. كان ضمن هؤلاء المتخاصمين بالطبع أدباء وكتاب كبار، منهم على سبيل المثال لا الحصر الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي الذي تصدى في مقالاته المنشورة في الصحف للرد على الأباطيل التي كان يراها، وتحولت هذه المقالات فيما بعد إلى كتاب قيم رد فيه على ما جاء به طه حسين، عنوانه (تحت راية القرآن)، ويعد من أقوى وأجمل الكتب التي حملت وجهة النظر الأخرى. ما يعنينا من ذلك كله، هو ما كانت تمثله الصحافة في ذلك الزمن من قيمة حقيقية في ظل هذه الأسماء العظيمة التي كانت تتبارى في ساحتها، وتجعلنا نختار طريقنا بإرادتنا الحرة، اعتماداً على الحجة والبيان لا على قوة الأسماء.
هذا التاريخ الجميل للصحافة ومقالاتها وكُتابها في مصر الحبيبة التي كانت سباقة في هذا المجال، ولم يكن غيرها قد شرع في هذا النهج الثقافي الذي أتى به المستشرقون المرافقون للمستعمرين، وجعلوا منه الأداة القوية المستخدمة في تغريب الأمة، ووُظف لاحقاً ضدهم من قِبَل كتاب كبار (كما أسلفنا في حديثنا عن المنفلوطي)، أقول، هذا التاريخ الزاهي لم يتوقف على تلكم الأسماء رغم قيمتها وقوة تأثيرها، بل امتد حتى ثمانينات القرن العشرين، وحفل بعدد لا يستهان به من القمم الأدبية أمثال أنيس منصور الذي أدخلنا معه في أدب الرحلات، ودوَّن معظم كتبه من خلال مقالاته الصحفية التي جُمعت لاحقاً وأصبحت أيضاً ضمن الإرث الأدبي الكبير الذي يفاخر به أدبنا العربي، ومنهم أيضاً الأديب والروائي الكبير جمال أحمد الغيطاني الذي لم يتخل عن الصحافة، وظل ركناً مهماً من أركان مؤسسة الأخبار حتى وفاته، رغم نتاجه الأدبي الكبير في مجال القصة القصيرة والرواية، ويعد ظهوره متأخراً إلى حد ما، لكنه -في ظني- يُعد امتداداً لجيل العمالقة. فتخيل كيف يمكن أن تكون مطالعتنا المقالية اليومية مع أسماء كهذه يُستشهد بها في أي حديث عن تاريخ الأدب في مصر!
حديث كهذا عن الصحافة والمقال لا يمكن أن يُغفل الدور الكبير الذي لعبه اسم آخر له قيمته الأدبية والثقافية، وأعني به يوسف إدريس بكل ما يمثله من قيمة في مجال القصة القصيرة وإبداعها، إذ نجد أنه على الجانب الآخر كان كاتباً مقالياً لا يُشق له غبار، حتى قيل إن المقالة أنسته كتابة القصة، وتأثر بها في مجموعاته الأخيرة التي افتقرت للوهج الذي حملته مجموعته الأولى (أرخص ليالي)، والسبب في ذلك معاركه الصحفية الطاحنة، حينما سخر المقال -في نظر البعض- لحروبه الشخصية، ومنها مهاجمته نجيب محفوظ بتقليله من مكانته الأدبية، والإعلان عن عدم استحقاقه جائزة نوبل، كذلك تعريضه بالشيخ الشعراوي واستهدافه، ومحاولته التقليل من مكانته. وكلنا يعلم أن تقصد أسماء كبيرة مثل هذه ما كان ليحدث لولا أن الكاتب يملك القدرة على إدارة معركته الصحفية حتى النهاية، فخصومه لا يقلون إبداعاً وقدرات كتابية وأسلوبية عنه، وكانوا -يقيناً- يملكون الحجة والبرهان للرد على افتراءاته واستقصاده إن كانت كذلك، أو الذب عن أنفسهم إن مكان محقاً. المهم من ذلك كله هو ما كان يمكن أن نجنيه بصفتنا قراء -لو عاصرناهم- ونحن نطالع مثل هذه السجالات الكتابية بين هؤلاء العمالقة. ولعلنا أدركنا شيئاً من ذلك الجمال الكتابي من خلال مطالعة الكتب التي حفظت هذا التاريخ، فهل توقف الأمر عند ذلك؟!
بالطبع لا، فالصحافة والمقالات كانت زاخرة حتى وقت قريب بعمالقة آخرين يكتبون في شتى المجالات، من بينهم أسماء أدباء كبار لا يمكن المرور على تاريخ الصحافة دون ذكرهم، رغم أنهم قريبو عهد بنا، كإبراهيم أصلان الذي لا تعلم سر الجمال في كتابته، وتستمتع بها كما هي، فهذا الأديب الحصيف لم تكن كتبه، كـ(خلوة الغلبان) وغيرها، إلا تجميعاً لمقالاته المنشورة في الصحف. يكفي ذكر ذلك لنعلم قيمة المقالات التي كانت تُنشر. وفي هذا السياق الإبداعي لا يمكننا نسيان الروائي العالمي نجيب محفوظ الذي قام أيضاً بنشر بعض الكتابات المقالية، وأعتقد أن التاريخ يحفظ له شجاعته في الرد على عباس محمود العقاد في شبابه وبداية بزوغ نجمه، عندما قلل العقاد من قيمة القصة والرواية، حين بويع بإمارة الشعر بعد وفاة أحمد شوقي، فتجند للدفاع عن الشعر ومنحه القيمة التي يستحقها في موازاة القصة التي بدأت في ذلك التوقيت تغزو الساحة الأدبية، وُخشي منها أن تنافس الشعر الذي لم يكن الأدباء يتفاضلون بغيره، وتُعرَف قيمتهم من خلاله. والشاهد هنا أن معركة مثل هذه كانت تدور على صفحات الصحف، ويحمل لواءها أعلام مثل هؤلاء، تطلعنا على قوة تأثير الصحافة في المشهد الثقافي برمته في ذلك الزمن، وهيمنتها عليه.
لعلي أختم بالحديث عن قيمة كبيرة تعد حتى وقتنا الراهن ظاهرة علمية وفكرية وثقافية، وأعني بذلك الدكتور مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، الشهير بمصطفى محمود، حيث كان له حضوره في الصحافة المقالية، فكُتبُ هذا المفكر والعالم الجليل بلغت ما يقارب تسعة وثمانين كتاباً، تنوعت في الأدب والثقافة والفلسفة وعلم الأديان والعلوم الطبيعية والطبية والغرائبيات، واتخذ بعضها من أجناس أدبية محددة وعاءً له، كالقصة والرواية، مثل رواية (العنكبوت) ومجموعته القصصية (شلة الأنس) التي تحولت إلى فيلم سينمائي. هذه الكتب في معظمها كانت مقالات منشورة جُمعَت لاحقاً، منها بالتأكيد حديثه عن الشفاعة، وركوبه موجة الإلحاد، أو لنقل وقوعه في الشك، قبل يقينه وتوبته وعودته مرة أخرى، وكل الصراعات التي كان يعايشها ويرد عليها من خلال الصحافة والتي منها بالطبع وقوفه سداً منيعاً أمام الصهيونية العالمية، لإبطال مزاعمهم التاريخية، متخذاً الصحافة منبراً لهذا الحراك العظيم. ولنا تخيل ما كانت تمثله الصحف في ظل ذلك الحراك الإبداعي الكبير، وكيف تنازل بعضها عن دوره، وسلم مفاتيحه لمن لا يعرف قيمتها ولا يستحقها في معظم الأقطار العربية.
ولعلكم تلاحظون أنني لم أمر على أعلام الصحافة في ذلك الزمن الجميل، كأحمد حسن الزيات مؤسس مجلة الرسالة وأحد أعلام عصر النهضة الثقافية في العالم العربي، ومحمد حسين هيكل الأديب والسياسي المعروف الذي ترك إرثاً كبيراً في الصحافة، خلاف كتبه وعلى رأسها (زينب) التي تعد أول رواية عربية، ومَن أتى بعدهم من أعلام كبار كمحمد حسنين هيكل، ومصطفى أمين وعلي أمين، مؤسسي مؤسسة الأخبار المصرية، وباقي الأسماء العظيمة التي لم أتجنب الحديث عنها تقليلاً أو جهلاً، وإنما اقتصرت على هذه الأسماء لتوظيفها كشواهد على ما نعنيه من حديثنا عن تغلغل الأدباء غير المعنيين بشكل كامل بالصحافة، وإسهامهم في ازدهار الثقافة والأدب انطلاقاً من الصحف التي كانت تمثل الوعاء الجامع لكل الآداب والمعارف، ولم تكن يومها بحاجة لاقتناء كتاب والاجتهاد في تحري قيمته وقيمة القلم الذي دونه ودار النشر التي تبنته إذا رغبت في الاستزادة من المعرفة والفهم، إذ يكفي أن تكون قارئاً نهماً للصحف حتى تلتقي بكل هؤلاء القمم، وتتربى على أحرفهم ومفرداتهم، وتقتني كتبهم وأنت على يقين من قيمتها، دون استشارة. كان ذلك في زمن طُوي وانقضى ولم يبقَ منه غير الذكرى.

ذو صلة