مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الدوافع البيئية للأدب

من البدهيّ أن تأخذ المطالب البيئية حيزاً كبيراً من الثقافة والسياسة الحديثتين، وأن تُعنى الدول والمنظمات بالهمّ البيئي وتضع مقاصد متعلقة بحماية البيئة من الأخطار التي أفرزها التطور الصناعي والتقدم التقني. لكن ما يبدو ظاهرياً أن الاهتمام بالطبيعة والبيئة من شُغل العلوم الطبيعية والعلماء ليس صحيحاً، فقد أمست دراسة البيئة محطّ الانشغال الفلسفي والسياسي والأدبي والنقدي. ولأن حديثنا هنا عن الأدب، نقول إن لدى الأدب ما يقدمه في هذا الشأن، فما قد يفوت على العلماء والساسة وواضعوا الإستراتيجيات؛ يستطيع الأدب أن يسلط الضوء عليه ويبلوره بما يتوافر له من سمات يقصر دونها العلم بصرامة منهجه التجريبي. ولهذا فإنه قادر على إعادة التفكير في مشاكل عصرنا البيئية وإعادة تخيّلها والإسهام بفاعلية في النقاش الدائر حولها.

تُلقى اللائمة على الحضارة الغربية في رسمها علاقةً تفصل بين الطبيعة والثقافة. وطّد لتلك العلاقة تعريفُ الإنسان نفسه بالضرورة ندّاً للطبيعة، ونتج عن ذلك التعريف نظامٌ قيميٌّ ومعرفيٌّ يتمحور حول الإنسان وحده بوصفه العنصر الأكثر تفوقاً. ومع أن الأدب ينتمي إلى الثقافة فإنه لا يسعى إلى النظر إلى نفسه باعتباره ندّاً للطبيعة. وهكذا كانت العلاقة بينهما علاقة حيوية سمحت للأدب أن يعبّر عن الطبيعة وعن الهموم البيئية في أزمنة مختلفة وسياقات مختلفة، متخيّلاً الطبيعة في كل مرة بما يتوافق مع مساعيه.
يمكن الاستئناس بالأدب العربي القديم للاستدلال على مظاهر البيئة وعلاقة الجاهلي ببيئته، وتحديد المدى الذي كانت الطبيعة وعناصرها تمدّ الشاعر بالإلهام وتحرّك قريحته وتذكّره بمحبوبته إليه. قال ابن قتيبة عن هذه العلاقة: (لم يستدعَ شارد الشعر بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخضر الخالي)، لقد انبرى الشاعر العربي لتركيب صور فنية عالية، وظفت في شتى مقاصد الشعر: كالوقوف على الأطلال والغزل والنسيب والوصف والرثاء. وجاء وصف الدابة وتقلّب المواسم وازدهار الأرض بعد المطر بمثابة عناصر طبيعية محملة بالدلالات والرموز ترصع الشعر العربي.
الرؤية الرومانسية للطبيعة
يمكن تحديد الحركة الرومانسية باعتبارها بذرة التعاطي مع الطبيعة على أنها مسؤولة عن تجربة الفرد، لا مجرد معطيات تحقق وجودها بعيداً عن النشاط الإنساني. لقد استجابت الحركة الرومانسية للثورة الصناعية استجابة نستطيع وصفها بالجمالية. واستفاد الرومانسيون من إعادة اكتشاف الطبيعة في عصر النهضة بعد انشغال القرون الوسطى بكل ما هو ميتافيزيقي، لافتين الانتباه إلى سموّ العالم الطبيعي وجماله. وامتلأت قصائد الرومانسيين بالاحتفاء بالطبيعة وتصوير مشاهدها الفائقة السامية التي يشير سموّها إلى تجاوز عظمتها وجمالها إدراك التقدير والتذوق والتعبير. إنها مشاهد مهيبة لا يملك الشاعر أو الفنان إذ يقف أمامها سوى للتسليم بعظمتها وجمالها، إذ تلقي في صدره الرهبة والعجب معاً. إن مشاهد البحر وأمواجه المتلاطمة مثلاً في لوحات البريطاني وليم تيرنر لتبرهن على أن كل الشعر والفن إنما هو استجابة بشرية لتلك المشاعر التي تبثها الطبيعة في قلب الإنسان.
لكن العلاقة بين الشاعر الرومانسي والبيئة علاقة حسية عاطفية، غالباً ما تأخذ طابعاً رثائياً يشبه ما يحدث عند البكاء على الأطلال في الشعر العربي القديم، أو احتفالية كما شهده الأدب الأندلسي من عناية فائقة بالطبيعة، حيث عكف الشعراء على وصف مناظر الطبيعة والتغني بجمالها الأخاذ. تلك العلاقة لا تنطلق من وعي بيئي أخلاقي بالكليّة وإنما هي ردة فعل. وحتى عندما ظهر الأدب الرعوي فإنه لم يبتعد عن تلك النظرة، إذ يصوّر في الانسحاب إلى الريف وحياته المثالية ملاذاً من المدينة وما جاءت به من اغتراب الفرد عن ذاته وعن الطبيعة بفضل الثورة الصناعية. عولجت المناظر الطبيعية معالجة رومانسية فيها حنين إلى الماضي، وهكذا أُخذ على الأدب الرعوي مثاليته المبالغ فيها وتعميته الحقيقة عبر إخفاء الواقع الذي قد لا يختلف في قسوته كثيراً عن المدينة.
الطبيعة في الذهن الأمريكي
رأت المخيلة الأمريكية في الريف فرصة للإعمار والازدهار، وأصبح الريف مجازاً للرغبة في التوسع الدائم في اتجاه الغرب. بينما تشيّد المباني على الساحل الشرقي للقارة، تمتد اليابسة غرباً منادية الأمريكيَّ بأن يسخرها لأحلامه. ولذا أشار النقاد إلى أن علاقة الإنسان بالريف في الأدب الأمريكي تنطلق من منطلقات متعلقة بإعمار الأرض لا من منطلقات جمالية كما هو الحال مع الحركة الرومانسية في أوروبا. ومن أبرز ما كتب في هذا الشأن مقالة للكاتب والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسن بعنوان (الطبيعة)، دعا فيها إلى ضرورة تقدير الطبيعة حق التقدير، الشيء الذي حالت دونه متطلبات العصر. وقد وضع إمرسن المجتمع في مواجهة مباشرة مع الطبيعة، لأن الأول يدمر كليّة الثاني، والكليّة هنا يقصد بها أن الطبيعة تحوي، بحسب رأي الكاتب، كل ما يحتاج الإنسان إلى معرفته لمّا يتسلّح بالانتباه والإرادة الكافيين. تنطلق هذه الرؤية من منطلقين، أولهما أن العالم موجود من أجل الإنسان وأن كافة عمليات الطبيعة تصبّ في مصلحة الإنسان وخدمته، وثانيهما أن العلاقة المثالية بين الإنسان والطبيعة يجب أن تكون علاقة تبادلية، إلا إنه في الوقت الذي تعطي فيه الطبيعة يخفق الإنسان في مبادلتها العطاء. ولأن الحداثة قد بدأت فعلاً في التضحية بتلك العلاقة، يمكن القول إن الحل لرفض الحداثة أو مقاومتها على أقل تقدير يكمن في الركون إلى العزلة والصمت والتأمل، هذه الفضائل لا يمكن أن يوفرها شيء آخر سوى الطبيعة. أما الفيلسوف المتعالي الآخر، هنري ديفد ثورو، فذهب إلى أن أرفع النواميس ذلك الذي قضت به الطبيعة لا ما صنعه الإنسان. كتب ثورو في كتابه الشهير (وولدن) الذي نقل فيه خلاصة تجربة اعتزاله في غابة حمل الكتاب اسمها عنواناً له. رأى الكاتب في تجربته تلك محاولة لمواجهة الحقائق الأساسية للحياة في المكان الوحيد الذي يوفرها، ألا وهو الطبيعة.
صنيع الاستعمار بالبيئة
هناك علاقات أكثر إشكالية من مجرد العلاقة الجدلية بين الطبيعة والحداثة، لعل أبرزها دور الاستعمار في إعمال آلاتِه في انتهاك النظام البيئي لمسرح أفكاره وممارساته. ولذلك فلا غرابة أن يناسب تصوّرُ أرضٍ ما على أنها امتداد من البرّية البِكر الخيالَ الاستعماري الذي يرمي إلى توكيد أسبقية وأحقية بالاستيطان في تلك البرّية واستغلال خيراتها. إن المستعمر إذ يُشرف على أرضٍ يرى فيها فرصة لتطبيق أفكاره التي تدور حول قدرته على تسخير الطبيعة لحاجاته ورغباته. تمنحه الأرض فرصةَ أن يرى في نفسه تجسيداً لفحولة الحضارة التي لا يقف أمامها شيء. ولعل خير ما يمثّل هذه النزعة الروايةُ المبكرةُ للكاتب البريطاني دانييل ديفو (روبنسن كروسو) التي كتبها في مطلع القرن الميلادي الثامن عشر. تحتفي هذه الرواية بانتصار الإنسان، من حيث هو عنصر مسخِّر ومنتج، على الطبيعة. كروسو مغامر بريطاني شابّ يجد نفسه وحيداً في مهجورة تقريباً على واحد من سواحل أمريكا الجنوبية. من هناك يستأنف ممارسة استعلائه على الأرض التي (يكتشفها) وساكنيها، ولذلك لا غرو أن يختار ديفو جزيرةً نائيةً ليمُسرح فوقها خياله الاستعماري، وهو تاجر جاب الآفاق ووجد في المغامرة الاستعمارية الطريقة المثلى للسيطرة على الطبيعة. إذن فالأرض البكر، حتى وإن كانت بكارتها متخيلة وليست حقيقية، هي خيرُ مكانٍ يمكن تطبيق الأفكار والتقنية الأوروبية عليه لتمحيص تلك الأفكار باعتبارها أنموذج حياة مفضّل. في لحظة كاشفة من الرواية يقف كروسو وقفة ملكٍ فرض سيطرته على الجزيرة واستعبد أهلها بعد أن بدّل لغتهم ودينهم، ولم يبقَ أمامه إلا إن يكون إلها. تستمر سيطرة كروسو على الطبيعة إلى أن ينجو وحده من متاعب رحلته الاستكشافية ويكتب بنفسه قصته وقصة المستعمرة التي أنشأها.
الوعي البيئي ما بعد الاستعمار
في البقاع التي رزحت تحت وطأة الاستعمار تحالفت دوافع طرد المستعمِر وإزالة الضرر الذي ألحقه بالأرض وأهلها مع دوافع الحفاظ على البيئة التي ساهم الاستعمار في تدميرها. ورمت إلى الكشف عن الممارسات البيئية الضارة في ظل الاستعمار، بدءاً بالاستيلاء العنيف على الأرض، ومروراً بسرقة مواردها الطبيعية، وانتهاء بإخلال النظام البيئي بإدخال أنواع من المحاصيل والماشية أو حتى الطرق الزراعية الأوروبية على أراضٍ غير مستعدة وغير محصّنة. الشيء نفسه انعكس في الأدب، فلا مناص لأدب ما بعد الاستعمار من التطرق إلى التبعات السلبية والمساهمة في نقدها. ففي سياق وثيق الصلة بسياق ما بعد الاستعمار، رأى أدباء من سكان أمريكا الشمالية الأصليين في الاهتمام بالبيئة جزءاً أصيلاً من مقاومة المستعمر ورفع ممارساته الجائرة. لقد تنبهوا إلى غرض تقديم المستعمر لبعض الماشية، مثل الخيول والخنازير، إلى أمريكا لضرب مثال على قدرة الإنسان المتحضر على تدجين الحيوانات الوحشية. إضافة إلى ذلك عمدوا إلى التشديد على أساليب الحياة وأنماط العيش التقليدية أقرب إلى الحفاظ على علاقة متوازنة مع الطبيعة، وصوروا صنيع المستعمر بالحياة الحيوانية والنباتية على الأراضي التي كان السكان الأصليون يقطنونها.
قيامات علمانية.. الخيال الدستوبي
أدى الوعي بالقضايا البيئية العديدة إلى أن راح الأدباء يتخيلون سيناريوهات دستوبية علّها تدق نواقيس الخطر، فكتبوا عن مدن تغرق وموارد تنضب وأنظمة بيئية تتهاوى. ومن أبرز ما كتب في هذا الباب ما يسمى السردَ المناخيّ الذي يتناول الكوارث، ويذهب في تناولها الفني والموضوعاتي مذاهب. إذْ منه ما يتناول حدثاً كارثياً واحداً يركز عليه ويبني حوله قصته، ومنه ما يقدم صورة دستوبية بانورامية لا تقتصر في تناولها على كارثة بعينها، ومنه ما يتناول الكارثة في مفهومها المايكروسكوبي المصغر، أي الكارثة التي تحلّ بالفرد.
يطلق على عصرنا الحالي عصر الأنثروبوسين Anthropocene، وهو مصطلح يشير إلى مسؤولية النشاط البشري عن التأثير الأبرز في البيئة والمناخ. ولئن كان بعضهم يعد الثورة الصناعية البداية الفعلية لعصر الأنثروبوسين، فالقول إن اليوم يمثل ذروة هذا العصر، حيث يسود نظام اقتصادي قائم في جوهره على استغلال الموارد الطبيعية والبشرية أقصى استغلال. استجاب الأدب، وبخاصة في السرد، استجابة بارزة لهذه القضايا في طورها الحالي، حتى غدا هنالك ما يطلق عليه (رواية التغير المناخي). راحت الرواية تتخيل ما أطلق عليه (قِيامات علمانية) تصل فيها الثقافة البشرية إلى نقطة المنتهى وتكون للتاريخ الطبيعي الكلمةُ الفصل. ولا يخفى هنا أثر العلم في هذا التصور على الرغم من استثماره القيامة باعتبارها مجازاً دينياً لم يعد يتمتع بقوته كما كان في السابق.
خاتمة
يأخذ الحوار حول التغير المناخي بُعداً عالمياً متزايد الكثافة والإلحاح، حتى إن المجتمع الدولي شرع في حضّ أعضائه على تشريع سياسات تضمن مستقبلاً آمناً للكوكب. وكان إلقاء اللائمة على محاولة الفلسفة الغربية عزل الإنسان عن الطبيعة، وما نتج عنها من صناعة وتقدم تكنولوجي؛ بمثابة انطلاقةٍ نحو المطالبة إمّا بالعودة إلى نموذج بدائي لا يعرّف الإنسان فيه نفسه بمنأى عن المحيط البيئي الذي يوجد فيه، وإما باستلهام نماذج معرفية أخرى سلمت من تصورات الفلسفة الغربية. وفي هذا الشأن لا يتوانى الأدب من جهته في التضافر مع دعوات التغيير الاجتماعي والسياسي لتحقيق مصالحة بين الطبيعة من جهة والثقافة من جهة أخرى والتشديد على الالتزام الأخلاقي تجاه الكوكب وتسخير مظاهر العولمة، مثل المعلومات والتقنية والتأثير السياسي، لمواجهة الأخطار المحدقة به. بل إن حتى المنهج النقدي المحيط بالأدب انخرط منذ تسعينات القرن المنصرم في دراسة المكوّن البيئي في الأدب وعلاقة الأدب بالبيئة وأبان التزاماً بالمشروع السياسي الذي ينطلق من فكرة أن العصر الحديث أسهم في هدم الطبيعة، وأنه مع ذلك بإمكانه المساهمة في بنائها وحفظها.

ذو صلة