مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

المسرح والكوميديا

بدأ المسرح نشاطه كما هو معروف كشكل تعبيري راقص كان يترجم بها الإنسان حياته وأفعاله في حالات متعددة بشكلها الفطري البسيط حتى قرر الفراعنة من خلال عباداتهم في المعابد تقديم شكل تمثيلي بسيط يشهد له بعض المهتمين بأنه النواة الأولى التي بدأ بها المسرح واستمر من خلال الطقوس والشعائر والمحاكاة التي أتت كحضور أول مارس معه الإنسان البدائي أساليب متعددة وممارسات طقسية مختلفة منها ما كان مع الآلهة والطبيعة، وما كان كذلك احتفاءً تراجيدياً في بعض المواسم والأعياد التي قدمها الإغريق.

حضرت التراجيديات في صيغة سؤال أول وأبدي بعثه عباقرة المسرح مع الجوقة أحياناً وقبل ذلك من خلالهم حينما جسدوا أدوارهم في تلكم الملاحم الخالدة ثم غادروا جميعاً، وهذه الإحالة الإنسانية جعلت أساطين المسرح الإغريقي يبحثون في اتجاه آخر عن السعادة والفرح لأهميتهما في نفوس البشر وهذا أسفر عن حضور الملهاة بوصفها ذراعاً رئيساً وآخر تمخضت عنه الدراما بصورتها المنهجية وكان هذا على يد أبيخارموس وفورميس وتحديداً من جزيرة صقلية حتى وصلت أثينا الفنّ حيث الكاتب الإغريقي المشهور أرستو فانيس الذي قيل عنه إنه كان مولعاً بالسلام محرضاً على السعادة يقف دوماً في وجه البؤس والخداع، وكانت الكوميديا تعرض في أعياد الإغريق المتعددة يصاحبها شيء من الأناشيد الماجنة والساخرة المؤكدة لكثير من الأحداث وفق تقليد متعارف عليه سنوياً، واستمرت هذه الرحلة دون انقطاع، ويمكن تعريف الملهاة أو الكوميديا على أنها أحد أنواع التشخيص الجميل أو التمثيل لتجسيد شخوص معينة في صور وقوالب مرحة من صنع المفارقات وتكون عروضاً مسرحية في الغالب أو من خلال التلفاز وربما أستعين بالإذاعة أو السينما في تشخيصها، وقد عرفها في جانب آخر أرسطو بأنها: (محاكاة لأشخاص أدنى مرتبة لا في كل أنواع الرذيلة بل في جزء مشين يحقق عنصر الفكاهة). وهذا التعريف ربما أحدث إشكاليات طرحتها كثير من المعالم الضائعة والمضللة على نحو ما وصل إلينا من فلاسفتنا المسلمون والعرب الذين ترجموها بغير ما كانت عليه واعتمادهم بأنها ما يقابل الهجاء في ديوان العرب -الشعر- دليلهم في ذلك بأنها متضمنة الاستخفاف والاستهزاء والهزل والرذيلة!
ظهور الملهاة -الكوميديا- إذن أتى كتتويج فاخر لديموقراطية المسرح ومعادل موضوعي للرد على النص الأول الذي حضر في مرحلة التراجيديا، ولذلك برع على سبيل المثال شابلن والأخوان ماركس في الأعمال المقدمة حينما استخدموا الضحك والكوميديا علاجاً يقي من بعض مشاكل الحياة وهذا قد يبرر التفسير السيكولوجي للكوميديا ما بين الحاجة والدافع والعلاقة الطردية فيما بين الكوميديا والضحك، بدليل ما يراه بعض أطباء النفس بأن الضحك لا يفيد في مواجهة الضغط النفسي فقط، بل يعمل على تنشيط الجهاز المناعي والحد من أثار الشيخوخة والتقليل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية وتحسين الوضع النفسي والجسمي للإنسان بشكل عام مما يجعله أكثر تفاؤلاً وإقبالاً على العمل والحياة بقصد خلق الفكاهة التي قد تشير إلى معنى سلوكي يقود إلى انفعالات محددة تترجمها جمل متعلقة بلغة الجسد في بعض الأدائيات التمثيلية والمسرحية المشاهدة والأغاني المرحة في حياة الناس ولذلك يقول الفيلسوف الإنجليزي هوراس والبول: الحياة كوميديا لمن يفكر، وتراجيديا لمن يشعر.
اعتمدت الكوميديا في بداياتها على الأساطير والطقوس الخيالية بلباس فيه الهجاء والسخرية وبث الفرح، ولذلك تأتي مسرحية الضفادع لـ(أريستوفانيس) من أشهر الأعمال المكتوبة للكوميديا بما تضمنته من أحداث غرائبية وعجيبة ومنها زيارة العالم الآخر والوقوف بتلك البحيرة التي كانت تسكنها الضفادع والاستماع لصوتها وما دار من حوارات عليها، قبل أن ينتقل ديونوسوس للضفة الأخرى التي كانت تمثل مملكة الموت وبما يصاحبها من أناشيد هزلية من الجوقة المشاركة وهذا ما دعا (أريستوفانيس) ليسخر من يوربيديس لأنه أفقد التراجيديا جلالها القديم، وجردها من سموها الأخلاقي، ولذلك كانت أثينا العظيمة هي الوعاء الكبير الذي قدم الدراما بشقيها وأرسى معالم الفنون المسرحية بدليل ما أشار إليه الكاتب اليوناني مناندروس الذي قدم العديد من المسرحيات التي كانت تميل للبساطة واستدعاء شخصيات من عامة الشعب إذ لم تكن تجسد في فترات سابقة في عروض الكوميديا، وتقليصه كذلك لدور الجوقة التي كانت ترافق العروض المسرحية.
رحلة الكوميديا المسرحية في عصر النهضة لم تتوقف بل يُعد الكاتب الإنجليزي المشهور شكسبير من الذين كتب بعض الأعمال التي حملت روح الكوميديا كمسرحية تاجر البندقية على الرغم من النزعة التراجيدية التي حملتها هذه المسرحية وما قدمه كذلك في مسرحية كوميديا الأخطاء التي تقدم على نحو خاص النقاش الفلسفي في معرفة الذات وماذا نريد وكيف يمكن بناء مشترك إنساني مع الآخر من خلال شخصيات التوائم المتشابهة ظاهرياً والمختلفة في سلوكياتها والتي رسمت أحداث هذا الحوار المسرحي الهزلي، إضافة لما ابتدعه الكاتب الآيرلندي جورج برناردشو وهو من أشهر كتاب المسرحيات الهزلية. وتأتي مسرحية بجماليون ضمن أفضل الأعمال التي قدمها والتي تطرقت للصراع بين الأسطورة والحقيقة والواقع، الحب الحقيقي والمزيف، الحياة والفن، وما تضمنته المرحلة التاريخية في تقديم الكوميديا السواء التي تعتمد على عدم المباشرة والترميز والهجاء في العديد من العروض المسرحية وصولاً لكوميديا ديلارتي التي ظهرت في إيطاليا في عصر النهضة واعتمادها المباشر والرئيس على الارتجال عبر شخصيات ثابتة ومعروفة.
الكوميديا في الوطن العربي بدأت ربما من خلال مشاهد بسيطة كانت تقدم مثلاً من خلال عروض خيال الظل وما كان يجسده تحديداً شمس الدين ابن دانيال الموصلي في تمثيلياته المعروفة، وما تضمنته الشخصية العربية والتاريخية الفكاهية والمعروفة باسم -جحا-، وما كان في المسارح العربية في مصر وسوريا ولبنان، وأظن أن تجربة محمد الماغوط قد تكون من أبرز التجارب المسرحية في إطارها الكوميدي التي شهدها المسرح العربي كمسرحية ضيعة تشرين، وكأسك يا وطن، وبما حملته من أبعاد وأفكار متجاوزة تداخلت وناقشت ظروف البشر والمجتمع الشامي، حيث وجد نفسه فجأة بين منطقتي الجد والهزل، ومسرحيات سعد الله ونوس وتجاربه الرائدة، وإسهامات إسماعيل ياسين في الشخصية الهزلية المعروفة، إضافة لما قدمه الكاتب المصري المعروف علي سالم وبخاصة في مسرحية مدرسة المشاغبين وما تناولته من سخرية مبطنة ومواقف كوميدية ساخرة من الحياة والمجتمع والتعليم.

ذو صلة