(من قبل، كانت هناك عين، مبرمجة متزمتة عمياء ومقتولة بالسكين. ثم ولدت عين جديدة، ومعها نظرة جديدة إلى العالم، نظرة صانع أفلام حاول إجراء عملية جراحية لنا لعلاج إعتام عدسة العين المزمن).
يعتبر لويس بونويل سيّد السينما السريالية، وهو مسؤول عن بعض أكثر الأفلام استفزازاً وجرأة وأصالة في القرن العشرين. من خلال مهنة سينمائية امتدت لما يقرب من خمسين عاماً. بدءاً من المشهد الافتتاحي لفيلمه القصير (كلب أندلسي)، والذي وُلد من تمازج حلم لبونويل، مع حلم لسلفادور دالي. حيث يتم شق عين المرأة بشفرة حلاقة؛ وربما تكون هذه الصورة الأكثر إثارة للصدمة التي تم ارتكابها في السيلولويد. أسلوبه، في الواقع، لا يزال واحداً من أكثر الأساليب الشخصية والأكثر تأثيراً. ربما لهذا السبب قال تاركوفسكي: (لا أحد في هذه المهنة يصل إلى لويس بونويل، إنه المخرج الأسمى والمبدع المثالي في السينما). تتميز أعماله بميل مذهل للسريالية، ذلك النوع الفريد من الجنون الذي يمنح أفلامه جودة غريبة تشبه الحلم، كما لو أن الواقع يُنظر إليه من خلال عدسات غريبة مشوهة.
في الفيلم، يمكن أن يكون الحلم بالتأكيد مادة علمية، ومصدراً للصور، وملاذاً جمالياً، ومكوِّناً للشفاء، وحيلة، ولغزاً، ونزوة... من الجيد أن يكون لديك مكان شاسع للأحلام في الأفلام، لكن حلم الفيلم، حتى لو تم إنشاؤه بأرقى إتقان للعمليات الفردية المبدعة، فهو مع ذلك شأن سينمائي بحت. إنه ليس حلماً بأي حال من الأحوال، ولكنه حلم مصور، أي محاكاة أو حيلة تستخدم لصالح الفيلم. يقول بونويل: (أعبد الأحلام، حتى ولو كانت أحلامي كوابيس، وهو ما يحصل في معظم الحالات. إنها مزروعة بالعقبات التي أعرفها وأعترف بها).
يقال إنه، خلال الحلم، يقوم الدماغ بحماية نفسه تجاه العالم الخارجي، ويكون أقل حساسية إزاء الضجيج والروائح والضوء، لكنه بالمقابل، يبدو أنه يجري قصفه من الداخل بعاصفة من الأحلام، التي تتزاحم أفواجها. آلاف ملايين الصور تتدفق كل ليلة، لتتلاشى في الحال، بعد أن تكسو الأرض بالأحلام الضائعة. كل شيء على الإطلاق، يجري تصويره في هذه الليلة أو تلك، في دماغ أو آخر، ثم ينمحي.
ترتبط حياة بونويل بالطبع، بالطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي كان ينكرها دائماً. إن الميل إلى انتقاد رذائل البرجوازية بشكل لاذع يظهر غالباً في جميع أعماله. لقد اجتازت حياته بالتمرد والاستهزاء بأقدس التقاليد. وهو نفسه يؤكد أن الدين والوطن والأسرة والثقافة مؤسسات ريائية وغير أخلاقية. كل عمله هو رد فعل ضد المؤسسات نفسها. ودائماً ما دفعه موقعه الأخلاقي والسياسي حتماً إلى التعرض للرقابة. مثير للجدل في كل جانب من جوانب حياته، ليس بسبب قسوة مشاريعه، ولكن أيضاً لأنه دفع إلى الحد الأقصى بحيث يكون الفن السابع وسيلة لبدء مناقشة أي عالم نعيش فيه وماذا يجب أن نحارب المجتمع من أجل بنائه.
لا أعرف من أين أبدأ عندما يتعلق الأمر بتحفة فنية، لأنه إذا كان هناك شيء ما يحددها، فهو غموضها، وطابعها المتعدد والملتبس، والإمكانية الغريبة للتفسير في وقت واحد حتى من وجهات نظر مختلفة ومتناقضة. إن العمل الفني، كما أفهم، يتم تحديده من خلال قدرته على إثارة قراءات متعددة. بهذا المعنى، أحذّر من أن أفلام لويس بونويل يمكن أن تولد نقاشات حول النفاق، ودور المرأة. والمجتمع الإسباني المتدهور.
قلة من المخرجين، مثل بونويل، وصفوا بشكل مثير للإعجاب العواطف البشرية وبؤسهم، وغموض العلاقات وأعطوا مساحة للجدلية بين القيد والحرية. (تريستانا)، الذي تم تقديمه في مهرجان كان عام (١٩٧٠)، يحتوي على هذه الموضوعات، ومن وجهة نظر معينة، يمكن اعتباره فيلماً وصيّاً: فهو يشيد بالانحلال البرجوازي، والتضاد بين الجوهر والمظهر، وأهمية الصدفة، وانفجار الأحلام، والإثارة الجنسية. يتم تمثيله بتفاصيل صغيرة من خلال البطلين الرئيسيين، دون لوبي (فرناندو ري) وتريستانا (كاثرين دينوف) عبر تقاطع وجودهما وتبادل الأدوار من الضحية إلى الجلّاد.
(تريستانا)، أكثر أفلام بونويل الشخصية والأكثر إثارةً للقلق، وهو الفيلم الذي ربما يكشف عن أكثر مواهب السينما مراوغة أكثر من أي فيلم آخر. وهو تكيف مستوحى من رواية من تأليف (بينيتو بيريز جالدوس)، على الرغم من أن هذه الرواية لم تكن من أفضل رواياته، ولم يكن هذا العمل منتسباً، على الإطلاق، إلى عالمه، لكنه جمعني، وبكثير من المتعة، مع (كاثرين دينوف). كما يقول بونويل.
يتيح هذا الفيلم فرصة كبيرة للانغماس في هوايته المفضلة، واستكشاف الطرق المظلمة للجنس البشري بينما يسخر من رجال الدين والبرجوازية، ولكنها أيضاً صورة ذاتية غير مبهجة والتي تعكس مخاوف المخرج الخاصة من التقدم في السن وفقدان قبضته على الشيء الذي يقدّره أكثر، وهو حريته الفنية والفكرية (وهذا أمر مفهوم، حيث كان بونويل في التاسعة والستين من عمره عندما صنع الفيلم).
لا يمكن أن يكون هناك شك في أن شخصية الرجل المركزية دون لوبي، التي صوّرها فرناندو راي بشكل رائع، من المفترض أن تكون بونويل نفسه، وهذا ما يمنح (تريستانا)، إحساساً مريراً بالآلام.
ليس من قبيل المصادفة أن يتم عرض الفيلم بالكامل في مدينة توليدو، المدينة الملأى بالأصداء وبذكريات سنوات العشرينات بالنسبة لبونويل. حيث كانت للمدينة الإسبانية القديمة أهمية خاصة بالنسبة له. بصرياً، توليدو هي المكان المثالي لتريستانا، متاهة من الشوارع الضيقة المتقاطعة، التي تصعد وتهبط باستمرار مما يساهم كثيراً في الصور الصارخة للفيلم.
(دون لوبي) يستسلم لإغراء امرأة غير مناسبة تماماً (كاثرين دونوف)، التي تستخدم القوة التي يمنحها إياها لإذلاله وتدميره. يعترف دون لوبي، (عندما يتعلق الأمر بالمرأة والحب، لم أر قط أي خطيئة). هو مثقف ذو تفكيرٍ حر يحتقر التقاليد البرجوازية ونفاق الكنيسة، ومن الواضح أنه منشغل أكثر من اللازم بعمره. يتخلى تماماً عن مبادئه الاشتراكية المناهضة للبرجوازية، وينتهي به الأمر بشرب الشوكولاتة مع رجال الدين. إن صورة الأحلام المتكررة لرأسه المقطوع (اللمسة السريالية الأكثر لفتاً للانتباه في الفيلم) هي تلك الصورة التي تطارد بونويل، وهو رجل اشتهر بهجماته على الكنيسة الكاثوليكية.
(تريستانا)، مثل الشخصيات النسائية الرئيسية في العديد من أفلام بونويل، سرعان ما تدرك القوة التي تتمتع بها على الجنس الذكوري، وتستخدمها بلا رحمة للحصول على حريتها. إن تصوير الرغبة الذكورية يتم تقديمه بمهارة أكبر وأكثر تعقيداً مما هو عليه في العديد من أفلام بونويل، ويمكن القول إن هذا هو الفيلم الأكثر عذاباً ورومانسية للمخرج.
تكافح تريستانا باستمرار بين العثور على صوتها الخاص الذي تم حبسها فيه لكونها امرأة، وتبرير أنها مدينة بذلك لدون لوبي لحمايتها من العالم الوحشي بالخارج. يؤدي هذا الصراع إلى أن تصبح متمردة حيث تتضح أفكارها الضبابية وغير الناضجة، استياؤها وأملها في بناء حياة جديدة يشجعها على الهروب.
يرسم بونويل الشخصيات مع الفروق الدقيقة التي تضع طبقات السرد. إنه أكثر إبداعات الشخصيات صدقاً، لكنه يفتقر إلى الذروة العاطفية على الرغم من أن الشخصيات مرت بإعصار مضطرب من المشاعر. رغم ذلك، فإنه يتركنا مع أسئلة جدلية، ولكنها مهمة. كيف يمكن للكراهية أن تجعلنا أكثر حرماناً، وكيف يمكن للتخلي عن آرائنا العنيدة واحتضان الناس لما هم عليه أن يؤدي إلى حياة أفضل.