مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

رائد الطرب الأندلسي الأصيل عبد الصادق شقارة.. إبداعاته وحدت ضفتي المتوسط

قدم الكثير من الفنانين العرب لثقافة شعوبهم إنتاجات مهمة خاصة منها تلك التي تكرس مبدأ الانفتاح على ما يُنتج في بقية الثقافات الأخرى، فكانت أعمالهم أرضية خصبة لتحقيق التآخي الإنساني إلى جانب التجذر والخصوصية، كل ذلك في جماليات بقيت حية رغم مرور الزمن، وفي هذا الصدد يصنف الطرب الأندلسي كواحد من الألوان الفنية التي ربطت جسور التواصل والتلاقح الثقافي بين ضفتي المتوسط، وقد حاول ثلة من الفنانين حمل مشعل الحفاظ على هذا الموروث الموسيقي ونقله إلى الأجيال، وكان من أبرزهم الفنان المغربي عبدالصادق شَقَّارَة الذي أثث المشهد الثقافي العربي بفنه الأصيل، وتميز عن غيره برقة الكلمة واللحن والأداء.
ولد الفنان عبدالصادق شقارة سنة 1931م في حي الجامع الكبير بمدينة تطوان، التي تلقى فيها تعليمه الأولي، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية الخيرية، وبعدها المدرسة الأهلية، وكان لمحيطه العائلي تأثير واضح على مساره الفني، إذ نهل المبادئ الأولى في الذكر والسماع وفن الطرب الأندلسي من والديه، فوالدته للاَّ السَّعْدِيَة الحَرَّاقْ، كانت تغني له في مهده، بينما كان والده سيدي أحمد شقارة الذي كان أستاذاً بالمعهد الموسيقي بتطوان يلهيه بنغمات ساحرة، وبذلك يكون عبدالصادق شقارة قد اختار مصيره قبل أن يدرك معناه.
لازم عبدالصادق في صباه أقطاب الزاوية الحراقية، التي كانت بمثابة مدرسته الثانية بعد والديه، حيث تلقى فيها تكويناً جيداً في أصول المديح والموسيقى الأندلسية والعزف على آلة الكمان، وكان شيخ الزاوية (سيدي عرفة الحراق)، من أكثر الشخصيات التي اجتذبت فكره واهتمامه لدرجة أنه لما التقاه وتعرف عليه أصبح يعتبره بمثابة الأب الروحي، وهو الذي كان قد أهداه أول آلة عود عربي، تمكن عبدالصادق شقارة من العزف عليها، دون علم والده الذي كان يتمنى له مسيرة دراسية متألقة بدلاً من الموسيقى التي استهوته منذ طفولته.
وعند بلوغه سن الرابعة عشرة انضم شقارة إلى فرقة الشيخ سيدي عرفة، حيث بدأ يتعرف معه على أجواء الحفلات والسهرات الموسيقية، فقد رافقه في كل تنقلاته إلى أن توفي هذا الأخير، فتحمل بعده شقارة زمام القيادة في مجالس الذكر والأمداح أيام الجمعة والمواسم الدينية برحاب الزاوية التي نصبته عملاقاً فيها، وأهلته ليكون عَلَماً كبيراً لا يضاهيه أحد من أقرانه في المغرب قاطبة في ميادين الإنشاد والبراعة في العزف على آلة الكمان.
وتعد سنة 1947م من أهم المحطات في مسيرته الفنية، إذ سيلتحق بالمعهد الموسيقي بتطوان ليتتلمذ على أيدي عمالقة الموسيقى الأندلسية المعروفين في ذلك الوقت، أمثال العِيَّاشِي الوَرَّاكْلي، ومحمد العربي التَّمْسَمَاني، العربي الغَازي، عبدالسلام الدْرِيدَبْ، محمد بِيصَة، أحمد البردعي، محمد ابن عِياد. وبذلك يكون للمعهد دور مهم في حياة هذا الفنان حيث أنشأه طالباً متفوقاً ونشيطاً، وفي مرحلته العلمية جعله أستاذاً بارزاً وفناناً مبدعاً كبيراً.
وهكذا انطلق في شبابه وكهولته باحثاً ومنقباً عن نوادر أشعار الفن الأندلسي في مدن تطوان وفاس وشفشاون والرباط وطنجة والعرائش، فتعرف في فاس على عبدالسلام علوش أستاذ الطرب الأندلسي الذي أخذ عنه دروس العزف والأداء، والتقى بالأستاذ المرحوم محمد الفاسي المعروف بأبحاثه ودراساته القيمة في التراث الموسيقي الأندلسي، كما تعرف في مدينة الرباط على أهرام هذا اللون الموسيقي من أمثال الحاج مصطفى كديرة ومولاي أحمد الوكيلي.
وفي سنة 1957م، وبعد استقلال المغرب مباشرة، أنشأ عبدالصادق شقارة جوق المعهد الموسيقي بتطوان، وصادف ذلك افتتاح مسرح محمد الخامس بالرباط، وبحضور الملك الراحل محمد الخامس، صفق الجمهور لأول أغنية شعبية أداها شقارة تحت عنوان: (الحْبِيبَة أُو جَرَّحْتِينِي) التي عرفت نجاحاً كبيراً.
بعد ذلك لحن مجموعة من الأغاني الشعبية الشهيرة في شمال المغرب، وطورها بأسلوبه الموسيقي الرائع الذي ينهل من الموروث الأندلسي، حتى كون منها ثروة كبيرة مهمة وسجلها على الأسطوانات والأشرطة، ولقيت إقبالاً عظيماً، واهتماماً كبيراً من لدن المولعين والمهتمين بفنه، ومن أشهرها نذكر: (الحْرَامِيَّة)، (مولاي عبدالسَّلاَم)، (النَّار كْدَات في قَلْبي)، (الخَدْ حْمَارْ)، (أنا مْزَاوْك)، (بنت بلادي)، (يا حْبِيب القلب)، (المولوعة)، (الشمعة)، (بنت بْلادي). وتعد هذه الأخيرة إبداعاً استثنائياً بكل المقاييس، فهي المحطة الأساسية في مشواره الفني التي خلدته إلى اليوم، وهي من كلمات (عبدالرحمن العلمي)، وتم تسجيلها سنة 1979م بالإذاعة الوطنية المغربية.
وبعد انتشارها على نطاق واسع، أصبحت تردد في حفلات الأعراس، فاخترقت الحدود إلى الضفة الشمالية للمتوسط، واستهواها الجمهور الإسباني، فغناها شقارة رفقة المطرب الإسباني (ريكي مورينطي) سنة 1982 بغرناطة، بعد أن مزجا بين اللغتين العربية والإسبانية، فتحقق بذلك الاندماج بين الموسيقى الشعبية التطوانية والفلامنكو الإسباني، فلُقِّبت بـ(أغنية الضفتين).
وإلى جانب هذه الأعمال الموسيقية البارزة، ساهم شقارة في تسجيل النوبات الإحدى عشر للموسيقى الأندلسية سنة 1961م، كما شارك في العديد من المهرجانات المحلية والخارجية (إسبانيا، فرنسا، إنجلترا، الدانمارك)، ومن أهمها مشاركته في المهرجان الإسلامي بلندن عام 1975م بحضور الملكة إليزابيت الثانية، وفي سنة 1992م رشحه ولي العهد محمد بن الحسن بوسام العرش من درجة فارس.
وبهذا استطاع عبدالصادق شقارة بفضل مواهبه الفنية أن يتبوأ مكانة مرموقة بين رواد الموسيقى العربية خلال العقود الماضية، إذ تمكن بذكائه وحسه الموسيقي العالي أن يجعل راقصات الفلامنكو يتهادين على أنغام الموسيقى الأندلسية، كما لم ينس تطوير الأغنية الشعبية المغربية، وعمل على الانفتاح على موسيقى البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً الفن الموسيقي الإسباني، وكأنه كان يسعى لإعادة الروابط والأواصر مع الأندلس.
ورغم تقاعده عن عمله الرسمي في المعهد الموسيقي، استمر في نشاطه المعهود بمساعدته لهواة الطرب الأندلسي، فكان يزودهم بصنائع الآلة وأدوارها وموازينها، ويدربهم على غنائها وعزفها، كما واصل نشاطه الفني إلى أن وافته المنية سنة 1998م، وبهذا فقدت الساحة الفنية العربية هرماً من أهرام الطرب الأندلسي، الذي سيظل اسمه خالداً في صفحات المبدعين الكبار.

ذو صلة