مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

راكان دبدوب.. من جدران الموصل إلى جدارية التشكيل

تعد الكتابة في مجالات الفنون تأريخاً وتنظيراً ونقداً بوابة عبور إلى توثيق العمل الفني -على تعدد مجالاته. فتبحث النظرية المتعلقة بالفنون التشكيلية أفضية التجربة التشكيلية بتقديمها وتشخيص موقعها وممكناتها الجمالية واستبيان مدلولاتها واستخلاص مغزاها مع بسط سجايا تميزها.
لعلها المرة الأولى التي أضع فيها نفسي إزاء الكتابة النقدية والتنظيرية لأعمال فنية تشكيلية. تجربة أجدني بحضورها في موقع المضاف إليه لا المضيف، بأن فتحت هذه التجربة -بمعيتها- ضائقة العمارة على حقل الفن التشكيلي. لِمَ لا؟ لعَمري أن الكتابة في حقل الفن التشكيلي ليست خصيصة لباحثي ونقاد الفن فقط، فيمكنها أن تتجاوزهم إلى أقلام أخرى من شأنها أن تبدع قيماً جمالية وقيمة مضافة على العمل الفني وخطاباً إبداعياً موازياً له، ولِمَ لا، بأن (يزيدها شرعية ثقافية).
راكان دبدوب، فنان تشكيلي عراقي، ولد في مدينة الموصل عام 1942. يُعد راكان من التشكيليين الذين جعلوا من صور موطنهم خط قلمهم وألوانهم. عشقه للموصل ما ينفك يظهر سراً وعلانية على جدارياته. فهو نتاج بيئته بامتياز، كيف لا وهو في حضور الموصل، بلد التراث والتنوع الحضاري، فهي الأرض والوطن والملاذ الدائم.
راكان النحات الرسام أو هو الرسام النحات، تُمحى الفواصل بينها حتى أن بعض النقاد يقولون عنه (إنه ينحت حين يرسم ويرسم حين ينحت). لم يضع حداً للتخصصات عند ممارسة الفن، ولعل تعليمه الأكاديمي بكلية الفنون الجميلة سواء في الموصل أو روما عمّق ولعه بالاختصاصين دونما أن نتغافل عن دراسته لتاريخ الفن، والنقد الفني، والتخطيط والرسم المعماري، ونحت المرمر، والرسم الحر، ونحت الخشب، وصك العملات والتصوير الفوتوغرافي.. وغيرها. كيف لتشكيلي أن يحذق كل هذه التقنيات مجتمعة ولا يكون بفرادة راكان دبدوب؟
راكان دبدوب.. جدارياته قطعة من الواقع
بين التشخيصية والتجريدية تتموقع أعمال راكان الفنية، لتتراوح تشكيلاته بين الواقعية والتجريد. في لوحات عديدة تتصدر مدينة الموصل مكاناً من فكر وتشكيلات الفنان، ما يضع أعماله في علاقة تصالح بين التشكيل والعمارة، حيث تلتقي الفكرة الفنية بالكتلة على فضاء المحمل. ليكون فناننا ذلك المهندس الذي يشيد بناءه طوبة طوبة. فمبناه متأصل في حضارته، له جذوره وتاريخه وبعده الثقافي، ليؤسس للشكل، ويرسم ملامح هيكله بحضور الخصائص التشكيلية الفنية مُجتمعة. فالأثر هنا قد اكتسب الكثير من القيم التي تؤكد تحديد هوية بلد وفكر؛ لتبنيه ثقافة عريقة من ناحية، وانفتاحه على مسارات تشكيلية ومفهوماتية وجمالية من ناحية أخرى.
في جداريات راكان يتجلى الأثر المعماري في تشكيل رصين بحضور أشكال بصرية تحكي قصة بلد وتحاكي روايات عن الحب والحنين والذكرى.. في أعمال رسامنا يتوافق التشكيل مع العمارة حد التماهي. فهل نحن إزاء جدران أم جدارية؟ تتوافر شروط العمل الهندسي من تصميم ودقة تنفيذ للمعايير والمقاسات، إلى جانب متطلبات العمل التشكيلي بمشاركة العناصر الفنية من تركيبة وخطوط وألوان ومساحات، باجتماعها نكون في حضور المحمل الحاوي لأجناس فنية متعددة.. فهو اللوحة والمنحوتة والرسمة والبناية ثلاثية الأبعاد.
رسم راكان مدينة الموصل في شتى حالاتها وبتعاقب الفصول بها.. شتاء حزين، ربيع متفائل.. وحتى أيام العيد. فالمتأمل في اللوحات الثلاث المعروضة أمامنا يلاحظ الانتقال الضمني من صورة حكائية لأخرى. أحسب أن الصور تتشابه في التركيبة، كتراكب كتل وتوزيع أشكال على المساحة المقترحة، لتُشبع الحيز المُحددة بمزيج من الألوان والزخارف، ويكون الاختلاف في التعاطي مع اللون والقيم الضوئية والتفاصيل التي تصنع خصوصية كل جدارية. وبالتالي الانتقال من تشخيصية عمارة المدينة إلى التجريد.
إن هذه المحاكاة لعناصر المدينة كشيء ممثل، (ليست بالضرورة نظيراً لهذا الشيء المادي، فالعمل الفني ليس له بالضرورة تمظهر الشيء، إنه يوفر الانطباع والإيحاء). فعند مناظرتنا للوحة نجدنا نبصر الرسمة من زاوية التشخيص التصويري للفضاء. جداريات ثلاث تتشابه من حيث المقاسات والتركيبة، وتقابل الخطوط واجتماع الأشكال. إنها الموصل بقببها وانحناءاتها، بأبوابها وفتحاتها وزخارفها. إننا أمام تعاقب معنوي للأزمنة، فالمدينة باقية دائمة أزلية لتتوالى الفصول ولتتوالى العقود، فلا صوت يعلو فوق خطاب العمارة.
لنجوب المدينة ولنفك شفراتها جدراناً وصلوات. في سيرنا تعترضنا الموصل شتاء.. مدينة بضبابها وألوانها الداكنة، بأزقتها المنعرجة، بصومعتها ومآذنها، بأبوابها المؤصدة، تحوطها العتمة بمسحة رمادية تكاد توازي السماء بالأرض سوى من زرقة القباب وخضرة بعض الأشجار.. وكأننا براكان يعلن أن خلف الظلمة نور وتحت الرماد حياة.

ذو صلة