مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

متحف(جميل ملاعب) مواجهة العمى

رائحة الأرض مدعوكة بالخمائر اللغوية، بعيداً من رسم التعثر، بالطريق إلى هذا الصرح المزروع في منطقة بيصور الجبلية كشعلة. هذه بداية المغامرة، أن تزرع متحفاً بعيداً عن العاصمة. كأنك تقيم عرساً للذئب. إلا أن الأمر يتعدى الأعراس، حين يقوم أحد الفنانين التشكيلين البارزين في لبنان بتعمير متحف من خمسة طوابق في قريته البعيدة عن بيروت مسافة ساعة، أقل بقليل أو أكثر بقليل. هذا فتح، بعيداً عن مركزية العاصمة. ثم إن الفكرة لا تتأبط شر الاستهلاك، حين يدعو جميل ملاعب البشر خارج العاصمة إلى دغدغة علاقتهم بالفن التشكيلي، ما لا يرونه إلا تحت الغبار بالمخيال وبالعلاقة المباشرة. لأن العلاقة بالفنون لا تزال تقوم على التسليع والإنفاق على السلعة بمفهوم التخديم أو الخدمات. هكذا، لم تمتلك الدولة متحفها بعد، سوى متحف افتراضي رسمه وزير الثقافة السابق ريمون عريجي، قبل أن يتسلم الوزارة عنه رجل آخر، حولها إلى غريق بأيام الصيف والشتاء، مع أن الوزارة تمتلك المجموعة الأثرى بعالم التشكيل. هذه واحدة من شهقات الروح لملاعب، من لم يسأل نفسه سؤالاً واحداً وهو يغامر في ترشيد العلاقة بالفنون، من خلال الأثر الإيجابي للفنون على البشر، على الناس، على العامة. هكذا، أقام الرجل المربوع القامة، ذو القبعة الأجنبية على الرأس ما دام صاحياً يسلي جن التشكيل؛ هكذا أقام متحفه، هكذا أقام متحفاً، بعد أن غذى فكرة لا تدغدغ قدر ما تنبني على مواجهة العمى في هذا العالم القاحل، الحافر بالعتمة لا بالنور.
لا يستعرض الأستاذ المتقاعد من الجامعة اللبنانية رتبة ولا رائحة ولا صدى الغرباء. ما يهمه أن يدغدغ ناره، لا أن تدغدغه النار وهو يتلبس بالنور في جولاته، مع الزوار، بالطوابق الخمس للمتحف. لا يمدح التهور حين مارسه منذ زمن، حيث غدا إلى مشروعه بجوع من تلزمه القرابين حتى يفتح بهرجها على نفسه، ثم على الجمهور، وهو يدري أن جزءاً من القرابين لن يتحقق بعصا الساحرة، بل من سحب اللحم من اللحم كما يسحب الغيم من الغيم، حين يتحول الغيم إلى رذاذ. أشعل الرجل نداه كما يشعل الغيم نداه. بالخاطر قطرات توقع رحلاتها فوق الوجوه وهي تعبر اللوحات المعلقة على الجدران وكأنها أحجام بلا أجنحة، حتى لا تطير. بيد أن من يعرف، يعرف أن اللوحات تطير حين تضحي وحدها. وحين تلف الأرض رائحة الأرض وهي وحيدة تناظر الوحدة بدون خوف. لوحات ملاعب على الحوامل وعلى الجدران، منحوتاته وابتكاراته. غير أن ثمة مساحات، بالأخص بالطابق الأول فوق الأرضي، لجماعة من الفنانين، من تقربوا إليه بالصداقات أو من تقربوا إليه بالإشارات وكسرات الفن وتلمس الطريق بعيداً من الكوكتيلات والغايات (اشترى معظم اللوحات ولا يزال يشتري). هذه جنة بشعاب، لا مبالغة؛ لأنها تنهش جزءاً من عتمة المنطقة، جزءاً من عتمة البلاد، إذ تواجه البلاد أزماتها وهي تتلمس الخروج منها بكل شيء، بأحجار الطريق والعولمة والخصخصة والمتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المغلوبة بوجهات المنتجين لا الفنانين. ثلة من الأسماء المهمة، البارزة، بتاريخ الفن التشكيلي في لبنان في طابق، كل لوحة ذئب يسمع غناؤه كما تُشتم رائحة الغجري وهو يخوض بالأرض والهواء، سواء بسواء. لوحات حسين ماضي ورفيق شرف وأمين الباشا وحسن الجوني وقيصر الجميل وعارف الريس وفروخ وحبيب سرور وداود القرم وخليل صليبي وشوقي شمعون وعمر الأنسي ورشيد وهبي.. وعشرات الأسماء الأخرى، لم تتعثر وهي تقفز فوق المضائق حتى تحط في هذا المتحف الأشبه بالصمتة الكبرى، حين ينأى عن مفهوم السوق بصالح الطيران بحس العصافير فوق المفهوم هذا، لكي لا تستمر ألعاب التورط في (الخطيئة الثقافية) أكثر. مناظر طبيعية وبورتريهات وأوتو بورتريهات وطبيعة صامتة. إكسترا كلاسيكية وإكسترا حداثة في قميص واحد. ولو أن اللوحات أوسع من قميص. عجين العالم التشكيلي وخبزه في متحف نيوكلاسيكي، روح نمط معماري نتاج الحركة الكلاسيكية الجديدة في فرنسا وإيطاليا القرن الثامن عشر. غير أن الرياح تلقح الرياح، لمَّا نكتشف بعض مواسم هجرات زهى حديد وهي تعابث التخطيطات، إذ ترى فيها سحنة وجهها بدون أن تطاطئ أمام نواح العمار الجديد.
متحف بعيدٌ من العاصمة؛ كسر للمركزية، كسر لنقر السوق، كسر الاستهلاك بالاحترام وحماية اللوحات والأسماء لا كخلائط، بل كتجارب محكوكة بجمر الأيام. متحف جميل ملاعب للفنون التشكيلية بحيرة من ذرة وزعتر في مجرة لا تصوم دهراً، دهوراً، إلا لتفطر على الفن والثقافة (ثمة متحف بالمدينة هو متحف سرسق، لا يزال يحياً على قوى ومساعدات المؤسسات العلمانية واللاعلمانية). متحف/نقش لا تحتاج إلى أجنحة لتصل إلى قبابه. ذلك أن هندسته هندسة دلائل الإعجاز بين الهندسات الشرقية والغربية. لا تحتاج إلى أجنحة لتصل إلى قبابه حيث تتواصل الطوابق كما يتواصل العرسان، بجوع الواحد إلى الآخر. الواحد يرعى الآخر بالتغريد في هذا المزار الفريد. قناطر وقباب ونوافذ تطل على صباحات ومساءات القرى بعد أن داخلت بين المنظومات القديمة والجديدة، مؤسسة لتصورات بديلة في العلم والمعرفة بعيداً عن السياسة وبقلب الفكر (الآخر). سعيٌ إلى تداخل المقاربات في بناء هيّبٍ لا ينسى وصايا الهبوب على القلوب النابضة، البصيرة، الدالة، المستدلة، المتمهلة، المغطاة بأقصى الصمت في خيام الدلالة على سير ترتاد الألحان كما ترتاد الماء.
الكلام على ارتياد الألحان جلدٌ من جلود المتحف، حيث لم يترك جميل ملاعب المتحف لأماني التشكيليين وحدهم، إذ لم يفته أن يجهز جزءاً من الطابق الأرضي بما تقوله أشهر الوقفات بالعالم، على صعيد الموسيقى والموسيقيين. إذن، هو محفلٌ تتعالق فيه الأنشطة والحفلات الموسيقية من غرف موسيقية وأوركسترات لا عددية، يدلها إلى صراط المتحف ريبال ملاعب، الموسيقي المعروف بالعالم، من حوّل جزء الموسيقى إلى وطن للروح. تمائم تنقض حدة تسيد الفن التشكيلي واللوحة للمتحف، إذ يدعو الفنان الموسيقى إلى الفوز بمائها ويدعو الأغنية إلى الفوز بمائها، حصتها من هذه البحيرة الفريدة الأشبه ببسمة الماء على أرض ناشفة. خمس طوابق تحيط بها منازل بيصور والقرى والبلدات الأخرى بجبل لبنان، من شرتون الأشبه بالنزل على سفح الجبل إلى عاليه وقبرشمون. بيصور، جزء بالهواء يتبوأ هندسة الأحياء الإيطالية وجزء على الأرض هادئ كما لو أنه تخلق من انفجارات لا ترغب البلدة بنسيانها، قدر ما ترغب بالاستراحة من سيلان خطوطها على أرضها وفي طبقاتها التكتونية.
البلدة لله، المتحف لله. البلدة أكثر بعد نجاتها من الحرب الأهلية وتحويل جروحها وغفلاتها إلى أذان بالحياة. إنها تشبه امرأة تغتسل بطين واديها في مواجهة كهوف الموت. لن تقع في صقيع المسافات بالطريق إليها، حيث تقودك الطرقات كالأوراد، حيث تقودك العلامات كما لو أنها بصمات أبطال السماء على الأرض. سوف تشكر الأرقام، سوف تشكر الشعر على الطريق، الماء في هدأة الطير، الرائحة بالخبز، الصلوات السرية، الدعوات الصادحة بجدولة وفهرسة النغمات بحيث تحولها إلى سرير أو تكاد. خلق جميل ملاعب المتحف كما خلقت هندسة الجغرافيا البلدة. خلق ملاعب المتحف كما تخلق ديدان القز الحريرات بأصوات لا تقولب، لأنها أصوات عوان، تمنح عظمة الجاه بدون أن تبحث عنه لنفسها. إذن، تلوح اللوحة للآفاق، كما تلوح الموسيقى. صاحبة الجلالة الأخرى تعتلي عرش الفن، حين يحيي أبناؤها حفلاتهم ليقيموا في بيصور على مدى أيام، ثم يغادرونها كالكنعانيين القدماء من غادروا القبة الذهبية إلى فيض الدمع. ألمان وسويسريون ومن مبدعي الأراضي المنخفضة، حتى تتأوه النوتات والسوناتات في أرض لا تعود أرضاً ملعونة بعد أن تتطهر بالتشكيل والموسيقى، بحيث لا تقع ضحية معتوه أو صراف لا تكفيه إلا القيم المطلقة للنقد. لا قيمة للنقد هنا. لا قيمة سوى للأفكار العفيفة، لتضحي نوارس تلتم على نفسها لكي لا تموت. المتحف جزء من سيرة الدمع، جزء من سيرة الفرح. حيث وجد جميل ملاعب نفسه لا يفكر إلا برقص الألوان والخطوط والأشكال على الورق. قال، سنقتسم الحب، قالها للحظات حين لم يعد من الوارد معالجة جمع الجمع بالنذور. يبدأ المتحف من هجاء البياض، يقول (خاص). ثم، من البياض، ثم من تخيل، تصور الوقع على الواقع. لا أموال، خاطرة كقصب السكر أولاً. ثانياً، كل فلس مسند. ثالثاً، لا تعجل للخطو، حيث بدا الأمر أعجز من احتواء هبوب قدوم هذه الوحدة الجديدة إلى العالم. وحدة ترتفع وحدة وحدة، كلما تأمن مبلغ من المال. وإذ ترتفع الصعوبات، لا نعترض عليها حين نواجهها بالضحك. لم يساهم أحد، لا جمعية ولا مؤسسة ولا منظمة ولا سلطة ولا مرجع ولا سياسي ولا نائب في استئناف المشروع بعد أن خرج من الاستراحة إلى التحقيق والتحقق. لم يشارك أحد من هؤلاء بحفل الافتتاح، لأنني لم أدعُ أحداً. كل من جاء جاء بصفته الشخصية، لأن ثمة حضور نفور. الدخول بلا تعرفة. دخول مجاني، حيث تشرق الصباحات على أنساغ الفنانين التشكيليين الموجودين في ذاكرة المتحف، يعطرها ملاعب بوفائه العظيم. ذلك أن الرجل لا يبخل على الزائر لا بشرب القهوة، ولا حين برواية الروايات. كل رواية مدخل إلى ممالك مطحونة بالتعب والاجتهاد والفقر والفاقة. لا تلعق الحروف نفسها مع أستاذ الرسم بالجامعة اللبنانية، من لم يدخل بالمرايا إذ فضل نفسه عليها، في مراحله الكثيرة. مرحلة ما قبل السفر، المرحلة الجزائرية، المرحلة الأمريكية، المرحلة النيويوركية، مرحلة العودة إلى بيروت، مرحلة الغجري من بحث عن حنطة لوحته في جولات دوّنها باللون. ابن بطوطة التشكيل هادئ لا يبيع شذراته، حين يرى أن صعود اللوحة على الحائط كصعود الأكاسيا. صعود مدوبل. الآخر من التجريد إلى التجسيد والتقسيم والتفريد والتحديد والتجديد. لوحة مجددة. لا تزال يده تطقطق كلما باشر بلوحة جديدة. الرسم يدرك نفسه بالأوجاع. ثمة روح طقسية بلوحات، رقة برقة الدمع وقوته وملوحته بلوحات، ضفاف الأبيض المتوسط بلوحات، ضفاف الأطلسي، ألوان ماتيس لا ورقه. هذا رجل يكرم وجهه حين يكرم الرسم، حين يكرم التشكيل. هذا ما اشتهاه، هذا ما حققه. لا قصر ولا ثكنة ولا مربط خيل. مائدة للشمس، وقفٌ بريءٌ من كل حطام. الأجمل عنده، حين يتفقد الطوابق واحداً واحداً، ذلك أنه يظهر، إذاك، كما لو أنه في دورية تزخر بالمسك، ناعورة من الحب والاهتمام.

ذو صلة