1
تشكل الموسيقى الشعبية منهلاً لا ينضب، من مناهل الإرث الثقافي في باكستان، وتتنوع بشكل كبير عناصرها التي تنحدر من أصول بلوشية، وباشتونية، وبنجابية، وبراهوية، وسندية، وكشميرية، وهي من ثراء اللحن بحيث تكاد كل مقاطعة من المقاطعات الباكستانية تنفرد بألحانها الخاصة، التي تتعلق جل موضوعاتها بالحياة اليومية، وباستخدام أقصر العبارات البسيطة، المفعمة بالحب والعاطفة، وأخلاقيات التسامح مع الآخر.
2
وتأتي موسيقى القوالي، كأحد أهم فنون الإرث الموسيقى في باكستان، واسمها مقتبس بالأساس من الكلمة العربية (قول)، و(قوال)، أي كثير القول. وتاريخياً، نشأ هذا الفن في القرن الثالث عشر الميلادي، في منطقة البنجاب، وكان الشاعر أمير خسرو، الشخصية الأبرز التي ساهمت في صياغة أصول هذا الفن، وتغنى به في المناسبات والاحتفالات، في ظل إقبال متصاعد من الجماهير، حتى صار يلقب بـ(عندليب البنجاب).
وسرعان ما انتشر في مناطق كثيرة من شبه القارة الهندية، وأصبح يمثل جزءاً مهماً في ثقافة وحضارة المسلمين هناك، وخصوصاً المتصوفين منهم. وتشير المصادر التاريخية أن موسيقى وأغاني أمير خسرو الذي أجاد العزف على أكثر من آلة موسيقية كانت ملهمة ومؤثرة في نفوس كثير من البوذيين والهندوس، الذين اعتنقوا الإسلام.
3
وعادة تؤدى موسيقى القوالي، من خلال مجموعة من الآلات، ذات الطابع التراثي، والتي أدخل على بعضها بعض التطوير في العصر الحديث، منها آلة الطبل الإيقاعي، التي تتكون من طبلتين صغيرتين، إحداهما تختص بإصدار النغمات القوية الحادة، والأخرى تصدر الأصوات المنخفضة. وآلة السيتار، وهي آلة هندوستانية، شبيهة بالعود، يرجع تاريخها إلى العصر الوسيط، وأصولها مقتبسة من آلة الفينا العتيقة. ومن الآلات المصاحبة أيضاً آلة مزمار القربة، وهي آلة هوائية، تعزف عن طريق النفخ عبر أنبوب خشبي ذي ثقوب، متصل بكيس جلدي واسع يخزن الهواء. وآلة إسراج، التي أخذ اسمها من كونها (تسرق القلب)، لبديع نغماتها، وهي آلة وترية قديمة تشبه القيثارة، ذات عنق مصنوع من المعدن، يحمل على رف خشبي، طوله يتراوح بين 12 إلى 15 سم، ويمتد طولياً في سلسلة متراتبة الشكل عدد من الأوتار. وآلة الطنبورة، وهي أيضاً آلة وترية، تتأثر نغمتها وتنسجم مع عزف الراجا (الراجا هو الكيان الموسيقي للفرقة، الذي يعمل على تنظيم الدرجات الموسيقية، وترتيبها، وتوقيتها النسبي، بطريقة مشابهة للكلمات التي تشكل العبارات بمرونة، وتخلق جواً من التعبير المترافق معها)، وثمة آلات موسيقية أخرى، مثل اليانسوي، والشيهناي، والسارد، والربابة، والباكهاناج، والسانتو وغيرها، وعادة يصاحب أداء موسيقي القوالي، التصفيق بالأيدي حسب الإيقاع.
4
ولموسيقى القوالي ما يميزها من سمات وخصائص، تسمو بها وتجعلها مفضلة، عن باقي الألوان الموسيقية الأخرى، المنتشرة في شبه القارة الهندية، من أبرز هذه السمات والخصائص:
أنها ذات ارتباط قوي بالصوفية، وينظر إليها الباكستانيون باعتبارها سمة أساسية من سمات احتفالاتهم الدينية، ومناسباتهم القومية، وكذا الأعراس، والاحتفالات الثقافية، ويتم أداء هذه الموسيقى في وسط من الغناء الجماعي، الذي يشارك فيه ما بين ثلاثة إلى ثمانية أفراد، متضمناً أبياتاً من قصائد لشعراء صوفيين كبار، من أمثال جلال الدين الرومي، وممزوجة بابتهالات دينية محلية، تسمو كلماتها بالقيم النبيلة والأخلاق الحميدة، وتدعو إلى التسامح مع الآخر.
وعادة تمتد حفلات القوالي لساعات طويلة، تتآلف فيها الموسيقى والألحان، مع الارتجاليات المتقنة، ويقول أحدهم: (لا أستطيع وصف الإحساس الذي ينتابني، عندما أسمع هذه الموسيقى، فهي تشيع السلام والطمأنينة في النفوس، وتأخذ المستمعين إلى عالم من الصفاء الروحي)، ويشير الموسيقي الفرنسي وعازف الغيتار الشهير تيتي روبن، إلى أن موسيقى القوالي ذات طابع فريد، يسمو بالمشاعر والأحاسيس، وتجبر الأذن على الإنصات إليها، لتنتقل نغماتها وتتفاعل مع نبضات القلب، في إطار هارموني روحاني لا يمكن وصفه. ويضيف قائلاً: (إن رسالة الحب والصفاء، التي تبعث بها موسيقى القوالي، لا ينبغي أن تبقى محصورة في المجتمع الباكستاني، وإنما يجب أن تمتد إلى العالم، من أجل الدعوة إلى التعايش السلمي بين الناس، لاسيما في خضم الصراعات التي يعيشها الإنسان).
5
وللقوالي أعلامها وروادها، الذين حافظوا على أصالتها، وأبدعوا في تقديمها للجمهور، وساهموا في انتشارها، منهم ميا تانسين، الذي كان له الفضل في توطيد صلة موسيقى القوالي بالظواهر الطبيعية، فهو أول ما ابتكر مقياساً موسيقياً للتعبير عن المطر، وابتكر مقياساً آخر لدمج العاصفة مع الموسيقى.
ونصرت فتح علي خان، الملقب بـ(شاهنشاه القوالي)، وهو أول من قدم موسيقى القوالي للجمهور الغربي، في إطار روحاني متسامح، وشديد التأثير، متجاوزاً حواجز اللغة والثقافة، وكانت حفلاته تحظى بإقبال جماهير كبير. ونصرت من مواليد عام 1948م، بمدينة فيصل أباد، من أعمال شمال إقليم البنجاب، وهو ابن لعائلة مارس جميع أفرداها فن القوالي. صدرت له عشرات الأسطوانات والألبومات الموسيقية، وألف العديد من المقاطع المؤثرة لأفلام وأعمال درامية، ليس في باكستان وكفى، بل وأيضاً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والهند واليابان، وكانت إحدى شركات الصوتيات في مدينة برمنجهام الإنجليزية، تعاقدت معه، لتسجيل وتوزيع أسطواناته وحفلاته، التي نظمت له في أكثر من 40 دولة حول العالم. جدير بالإشارة أن نصرت كان قد دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية العالمية، باعتباره الأغزر إنتاجاً لفن القوالي، بما مجموعه 125 ألبوماً.
ومن أعلام ومشاهير هذا الفن أيضاً الأخوان صبري (غلام، وأمجد)، وأصف علي، وفايز علي فايز، وإياز حسين، أحد أشهر محترفي آلة السيتار، وضابط الإيقاع محمد أجل، وبرويز مهدي، وميا شوكت حسين خان، وعبدالستار تاري خان، وشيبر حسين. ورغم أن القوالي تكاد تكون قاصرة على الرجال، إلا أن بعض السيدات أبدعن فيها، وتركن بصمات واضحة في ذيوعها، منهن السيدة نور جيان، التي لها صيت واسعة بين جمهور هذا الفن، والسيدة عايدة بروين، التي نالت لقب (ملكة القوالي) في باكستان، وهي من مواليد عام 1954م، وتنتمي لعائلة موسيقية، تعلمت العزف على أكثر من آلة، منذ نعومة أظفارها، وبدأت الغناء أمام الجهور في منتصف سبعينات القرن الماضي، وذاع صيتها في الثمانينات، وبدأت رحلاتها وجولاتها الفنية حول العالم في التسعينات.
وتقديراً لجهودهم في الحفاظ على هذا الفن، وتوسيع رقعة انتشاره، منحت الدولة الباكستانية هؤلاء الأعلام والرواد، جائزة (فخر الأداء)، وهي أعلى جائزة تمنح للمدنيين في باكستان.
6
ولكن في ظل صعود موسيقى الراب والروك والبوب، وغيرها من ألوان الموسيقى الغربية، وانتشارها خلال السنوات القليلة الماضية، بين الفرق الشبابية، التي تحيي حفلاتها في كثير من الحواضر الباكستانية، فإن ثمة تقارير تحذر من تراجع شعبية فن القوالي، خصوصاً لدى الشباب، وأوصت بأنه من الضروري الدفع بقوة نحو الحفاظ على مكانة هذا الإرث الموسيقي، وعطاءاته الثرية، وكذا حماية القائمين عليه، حيث إن بعضهم صار مستهدفاً من قبل جماعات متشددة، تضيق على نشاطهم، وتهدد حفلاتهم، بل وصل الأمر إلى تعمد إصابة وقتل غير واحد منهم، مثلما حدث مع الفنان أمجد صبري، الذي أصيب برصاصات قاتلة، في وضح النهار، من قبل شابين يستقلان دراجة نارية.
والسؤال الذي يفرض نفسه:
هل يواصل فن القوالي صموده، والحفاظ على بريقه، وصعوده،
في ظل تحديات غزو الراب والروك والبوب من جانب،
وتهديدات الجماعات المتشددة من جانب آخر؟