مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الخط العربي.. آيات من الجمال عبر الزمان

آيات من الجمال والروعة، وحروف تنطق بعظمة اللغة العربية، وأناقتها على مر الزمان، وتمزج بين الجمال، والجلال، والتصوف. هكذا هو الخط العربي، ذلك الفن العبقري الذي أبهر العالم، فتعلّمه غير العرب، وبرعوا فيه، وتفنن الجميع في ابتكار لوحات بديعة، بتوظيف حروف الخط العربي، بما تكتنز من طواعية تشكيلية، وقدرات تعبيرية هائلة، سبقت في تجريديتها أحدث نزعات الفن التجريدي. وقد كان الخط العربي دائماً شاهداً على عظمة الفن الإسلامي، ودليلاً على عبقرية لغتنا العربية الجميلة.
عناية العرب بالخط العربي
وظف العرب، والمسلمون الخط العربي في تجسيد جماليات الفن الإسلامي، فبالإضافة لاستخدامه في كتابة المصاحف، والكتب، وزخرفة المساجد، استخدموه في زخرفة الأختام، والسيوف، والسجاجيد، والملابس، والأواني، والحلي، والعملات. ومن الأقوال المأثورة عن الخط، ما قاله الإمام علي -كرم الله وجهه-: (الخط الجميل يزيد الحق وضوحاً). وامتدح أحد الشعراء مهنة الخطاط، فقال: (كفى قلم الكتّاب فخراً ورفعةً مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم). وفي مبادرة رائعة، تؤكد اهتمام العرب بالحفاظ على هذا الفن العريق، والارتقاء به، أعلن وزير الثقافة السعودي، الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، تسمية عام 2020، عاماً للخط العربي، تقديراً لدوره في الحفاظ على تراث اللغة العربية الأصيل، ولما يمثله من جماليات فنية، برع فيها العرب، والمسلمون عبر العصور. كما تقدمت المملكة العربية السعودية بمبادرة كريمة للحفاظ على فن الخط العربي، تبنتها الجمعية السعودية للحفاظ على التراث، وذلك من خلال تسجيل مهارات، ومعارف، وممارسات الخط العربي، في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية بمنظمة اليونسكو، فقد أثر فن الخط العربي في التراث الإنساني عموماً، حتى أن العمارة المسيحية تأثرت به -عربياً وعالمياً- ومن أمثلة هذا التأثر، الكتابات الموجودة على جدران الكنيسة المعلقة بمصر. كما تقيم مصر سنوياً ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي، و(قوميسير) الملتقى الذي ينظمه صندوق التنمية الثقافية، هو الشاعر، والخطاط الكبير محمد بغدادي. كما يقام سنوياً معرض للخط العربي، على هامش مهرجان القاهرة للموسيقى العربية.
تاريخ الخط العربي
كان الإسلام هو السبب في انتشار الخط العربي، فقد رفع مكانته، حتى انتشر في سائر الأمم الإسلامية. كما نقله المسلمون إلى البلدان الأوروبية التي وصلوا إليها، فانبهر الغرب بروعة الخط العربي، وجمالياته الفريدة، ويكفي أن الخط العربي لا يزال مستعملاً في كتابة لغات عدة شعوب إسلامية، غير عربية. وفي ظل الحضارة الإسلامية، كان للفرس، والأتراك -خصوصاً- دور بارز في إثراء جماليات الخط العربي. ويعتبر القرآن الكريم أول وأهم حامل للواء الخط العربي، فمع نزول الوحى على الرسول -صـلى الله عليه وسلم- وانتشار الإسلام، بدأ انتشار الخط العربي، نظراً للحاجة إليه في كتابة الوحي، ورسائل الرسول -صـلى الله عليه وسلم- إلى الملوك، والأمراء. وبعد توسع الدولة الإسلامية، أصبح هناك كتّاب الدواوين، والناسخون للمصاحف، والكتب، ودواوين الشعر، فارتقى الخط العربي، وزاد التفنن في أشكاله. وقد ظل الخط الكوفي هو المستعمل في كتابة المصاحف الشريفة، منذ عهود الخلفاء الراشدين، وتفرع في أواخر العصر الأموي إلى أربعة أشكال، أو أقلام -كما كانت تسمى- اشتقها من بعضها (قطبة المحرّر)، وكان أكتب أهل زمانه، ثم اشتهر في أوائل الدولة العباسية (الضحاك بن عجلان)، و(إسحاق بن حماد)، وأصبحت لهما الريادة في تجويد الخط، فزاد عدد أشكاله، حتى بلغ 12 شكلاً، وكان لكل غرض شكل للكتابة، فهناك (قلم الجليل): وكان يكتب به على حوائط المساجد، والقصور، و(قلم السجلات): للمدونات الرسمية، و(قلم العهود): للعهود، والبيعات، و(قلم الحرم): لكتابة رسائل الخليفة للأميرات. وبازدهار الحضارة في العصر العباسي -خصوصاً زمن المأمون- أخذت صناعة الخط تنمو، وتزدهر، فتنافس الكتّاب في تجويده، فنشأ (الخط المرصع)، و(الخط الرياسي)، وغيرهما، فزادت الخطوط العربية على عشرين شكلاً، كلها مشتقة من الخط الكوفي، والذي كان بمثابة خط الدين والدولة. أما خط النسخ فكان مستعملاً بين عامة الناس في المكاتبات العادية، حتى نبغ في كتابته الوزير العباسي (أبو محمد ابن مقْلة)، المتوفى سنة 328 هـ، حيث أدخل عليه تحسينات كبيرة، وأدخله في كتابة المصاحف، والدواوين، وتوالى بعد (ابن مقلة) خطاطون كثيرون، هذبوا خط النسخ، وأسبغوا عليه حلاوة، وطلاوة، من أشهرهم (ياقوت المستعصمي)، ومن النوعين الرئيسين للخط العربي (النسخ، والكوفي)، نشأت أشكال جديدة، أشهرها: الثلث، والديواني، والفارسي. أما خط الرقعة، فتم ابتكاره في العهد التركي، واشتهر من الأتراك خطاطون بارعون، اتخذت خطوطهم كنماذج للتقليد، من أشهرهم (حافظ عثمان)، والذي نسخ العديد من المصاحف. ولما انتقلت الخلافة إلى مصر، لقى الخط العربي أيضاً عناية كبيرة، ووضعت له قواعد تنظمه، وأصبح للحروف أشكال متعارف عليها بين الخطاطين.
السمات المميزة لأشكال الخط العربي:
-الخط الكوفي: ويتميز بأحرفه المضلعة، ويحاكي الأشكال الهندسية.
-الخط الديواني: يتميز بمد الحروف الأخيرة في الكلمات، وخصوصاً الجيم، والحاء، والخاء، والعين، والغين، ومد أطراف السين، والشين، والصاد، والضاد، وتراكب حروفه، وتداخلها مع بعضها، لترسم أشكالاً بديعة، وقد سمي بهذا الاسم، لاستعماله في ديوان الدولة العثمانية، لكتابة الإنعامات السلطانية، والتعيينات بالوظائف.
-الخط الفارسي: يتميز بميله للاتجاه من اليمين لليسار، ومن أعلى لأسفل، مما يؤدي لتطويل بعض حروفه الأخيرة، كالباء، والتاء، والثاء، والفاء، والقاف، والكاف، وكتابة السين، والشين، بخط طويل منحن. وقد ظهر في أواخر القرن السابع الهجري (13 ميلادي) في كتب الدواوين، والأشعار. أما الكتب العلمية، والدينية -خصوصاً القرآن الكريم، والحديث الشريف- فقد ظلت تكتب بشكل خاص من خط النسخ المستطيل. وقد انتشر الخط الفارسي قديماً من بلاد فارس، إلى شرق وجنوب شرق آسيا، وكذلك بين مسلمي الهند.
-خط الثلث: ويرجح ظهوره إبان العصر الأموي، وسمي بـ(الجليل)، أو (الطومار)، وتدل تسميته بـ(الجليل) على أنه خط جلي، واضح، أما تسمية (الطومار) فتطلق على نوع منه، حروفه أصغر، و(الطومار) كان يطلق على الرقاع التي يكتب عليها. وقد حدث تطوير لخط الثلث على يد الخطاط (إبراهيم الشجري)، وحسّنه، ووضع قواعده، الوزير الخطاط (ابن مقلة) إبان الدولة العباسية.
-خط النسخ: وسمي بذلك، لأن الخطاطين كانوا (ينسخون) به القرآن الكريم، ونفائس الكتب، وبظهوره حل محل الخطين الكوفي والثلث في كتابة المصاحف الشريفة، ووضعت به نماذج الحروف الآلية المستخدمة في الطباعة حتى الآن، ويرجع استحسانه لجماله، ووضوحه، وسرعة إدراك العين لكلماته، وقابليته للمد، بما يسهل تشكيل الكلمات، وحركات الضبط دون تزاحم.
-خط الرقعة: ويتميز بحروفه القصيرة الرشيقة، وسهولة تعلمه، وسرعة الكتابة به، وتخلو حروفه عادة من علامات الضبط، وقد نشأ في تركيا، وظهر في بعض المخطوطات منذ عام (886 هـ)، لكن صورته الحالية الرائعة، ترجع إلى جهود (ممتاز بك مصطفى)، المتوفى عام 1287هـ، ومن مشاهير المجودين فيه: محمد عزت، وأحمد الحسيني، وعبدالرزاق سالم.
-الخط المغربي: وهو من أهم، وأقدم أشكال الخطوط العربية، وأكثرها انتشاراً، فهو منتشر في جميع أنحاء أفريقيا، كما شاع انتشاره في إسبانيا في زمن الحضارة الأندلسية الزاهرة، وهو مشتق من الخط الكوفي القديم، ومن أهم سماته، أن حروفه مضلعة الشكل، وكتابة القاف بصورة الفاء، ووضع نقطة الفاء تحتها، وكتابة الدال، والذال بانحناءة لأعلى ولأسفل، كما يزيد المغاربة على الأحرف العربية، الجيم الموضوع فوقها ثلاث نقط، والفاء الموضوع فوقها ثلاث نقط، والكاف الموضوع فوقها، أو تحتها ثلاث نقط.
خطاطون خالدون
في تاريخ الخط العربي خطاطون عباقرة، لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً، سجلوا أسماءهم بحروف من نور، من أشهرهم أول رائد للخط العربي (محمد ابن مقلة)، وكان يكتب بيده اليسرى بذات جودة كتابته باليمنى، بعدما قطعت يده في زمن الخليفة العباسي (الراضي بالله)، إثر مكيدة من بعض عماله. ومن المعاصرين، هناك أستاذ أساتذة الخط العربي، الخطاط التركي (حامد الآمدي)، وشيخ الخطاطين (محمد عبدالقادر)، و(عثمان طه)، أشهر خطاطي المصحف الشريف، والذي أنجز 13 مصحفاً، وقضى 60 عاماً في خدمة القرآن الكريم، بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، وقد تمكن بتفرد أسلوبه، من جعل كتابة المصحف الشريف في غاية الوضوح، من خلال المزج بين خط النسخ، والخط الكوفي، و(محمد إبراهيم)، الذي كان أول فرد ينشئ مدرسة للخط العربي في الوطن العربي، والتي أنشأها بالإسكندرية سنة 1936، لتضاهي المدرسة الموجودة بالقاهرة، والتي أنشئت عام 1923، بأمر الملك فؤاد، ومن أبرز أعماله، كتابته لآيات قرآنية بمسجد الرسول -صـلى الله عله وسلم- بالمدينة المنورة، وبالعديد من المساجد في سورية، والعراق، وتونس، ومصر، كما قام بكتابة خطوط مبنى جامعة الدول العربية ومسجدها بالقاهرة، وخطوط متاحف (سعد زغلول)، و(مصطفى كامل)، و(محمد فريد)، وهو أول من أقام معارض للخط العربي، وقد ترك مرجعاً مهماً عن الخط الديواني، مكوناً من جزأين تحت اسم (المجموعة الفاروقية). ونختتم هذا التطواف الجميل في سجل الخالدين، بالخطاط الشاعر، سيد إبراهيم، الذي كان من أبرز أعضاء جماعة (أبولو) الشعرية، ثم افتتن بفن الخط العربي، وتفرغ له، وقد علّم مئات الخطاطين، من كل أرجاء العالمين العربي والإسلامي، وكان مجدداً في لوحاته، كما حوّل أغلفة الكتب إلى لوحات فنية رائعة، كما اشتهر بكتابته لعناوين الصحف، والمجلات المصرية والعربية، ولوحات بديعة لآيات القرآن الكريم، وكان من عشاق التراث العربي، ذوي الثقافة الواسعة، وقد لخص (سيد إبراهيم) مسيرته مع فن الخط العربي، بأبيات شعرية عبقرية، قال فيها:
كلفتْ نفسي بالفن، وكم للفن سحر
قد أضاع العمر في ريعانه خط، وشعر
كلما سطرت سطراً، ضاع من عمري سطر

ذو صلة