مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

وكان شقياً

طوقت شتات رغائبك فانقاد ذهنك طيعاً أخيراً إليك، ولو للحظات لا تطول، لكنها اليوم ستطول حتماً، هذا ما قررته وعزمت على إنفاذه رغم ضعفك وخوارك أمام عاداتك اللذيذة لك التي لا ترى لذة في كل العالم تعدل شيئاً منها، أن تغيب بعيداً أن تسرح في ذاتك تطوّح في كل جانب من جوانبك الداخلية، يصيح داخلك فتسمع النشيج عالياً، هنا تبدأ دموعك بالإجابة فتبكي وتبكي إلى أن يشلك الخدر الذي يقذفك إلى ظهر اليوم التالي، تصحو بصعوبة وكل أسى العالم بين عينيك، وأرتال الوجع تطرق رأسك، ورائحة شرابك العفنة تذيع في غرفتك الكئيبة، لكنك اليوم تقرر أن تكون لامعاً غير منطفئ سترى الشمس، ستضع عطرك القديم الذي اشترته أمك لك، بقي منها ما يمكن أن يذكرك بذلك الماضي، اليوم يجب أن تصمت اللذة ولو إلى حين، سيعطش الكأس إلى أن يصحو المساء القادم، ستعارك فيالق اللذة المترنحة، ستبدو أنك أنت أنت، خرجت اليوم من وكرك المظلم، منذ زمن طويل لم تدعك جسدك تحت الماء، لم تلبس لباساً بهذه الأناقة، لم تضع عطراً منتشياً كهذا العطر القديم، كدت أن تنكر نفسك لولا ذاك الصراخ داخلك الذي أعادك إلى نفسك الموبوءة بك.
دخلت بيتهم وأنت تجهد في صنع رجل آخر لديك، فأخفيت رعشة قلبك، وأسكنت اضطراب عظامك، ولبست أيامك القديمة اليانعة، تنشقت أيامك الماضيات.
أخفيت رعشة يديك، لن يلحظوا أنك تهتز كل ثانية، كنت تدرك ما أنت مقدم عليه، استجمعت كل منافذ تفكيرك، كي تتقن مهمتك جيداً، وتفوز بالفتاة التي لن يهبها أهلك لك، لو فتحت ثوبك، لو برزت خرائط قلبك الشقية، تصيح بداخلك، لذتك الغالبة تموء داخلك كقطة جوعاء، فيرتعش جلدك عدة مرات متلاحقة، تتململ في مجلسك وتأخذ عيونهم إلى نقطة بعيدة كي تعيد توازنك وتطفئ ارتعاشك، وتُسكت ذلك النوح الداخلي للذة اليومية، كنت حذراً.. ونجحت في مهمتك.
في طريق عودتك، شممت رائحة الشمس النقية، رائحة هواء لم تخالطه روائح اللذة الشقية، فأتى بِكراً شيّقاً، جعلت تتنفسه بتلاحق متتابع، وكأنه يوشك على الانتهاء، فتحت عينيك باتساعهما الممكن كي تعبّ من ضوء الشمس اللذيذ، ذلك الضوء القديم، فانداحت صور طفولتك تترى، تتابع في نهر ذكرياتك، لعبك، ركضك، صراخك، بكائك، ضحكك، كما تسللت أصوات حميمة كادت لفرط قربها من شغاف قلبك أن تحرق رطوبة عينيك تلك الذكريات البدائية في بواكير حياتك، صوت أبيك الشجي يختلط بصوت أمك يسيل حناناً متدفقاً، رائحة جدران بيتكم المتقاربة، أصوات شغب أخواتك وإخوانك، اهتز بدنك بسرعة، انتفض قلبك الشقي، وكأنك تطرد هاجساً ملحاً، معارك عديدة خضتها في ثوان معدودة كي تقرر أخيراً أنك لن تذهب إلى وكرك المظلم.. تلك الغرفة الموغلة في الظلامين.. ظلام قلبك وظلام جدرانها، فقررت أن تنحو نحو بيتكم القديم، هناك ستجد نفسك حقاً، هناك لن تفقد نفسك.. لن تجهد في مطاردتها كما تفعل الآن لن تسأل عنها كل حكيم في دربك هناك ستجدها حتماً ساكنة مطمئنة تلوذ بباقي جدران بيتكم القديم، ستجدها تكتظ بسعادة لم تعرف لها هاهنا طريقاً، ستجدها رطبة بعبق السماء، ستجدها باسمة لم يطمثها شيطان، ستجدها نظيفة عاطرة لم تخالط رائحة الشقاء، ستجد الشمس عن يمينها تمنحها دفئاً ورضاء، مشيت دليلك قلبك نحو بيتكم القديم، ستصل بيتكم القديم هناك ستبحث عن رائحة صوت أمك العالق على جدران بيتكم الصامدة، ستنصت لصوت أبيك الشجي الأجش ستقف منصتاً بأدب جمّ لما يمكن أن تسمع من أبيك وستطيعه حتماً لن تخوض تجربتك السالفة لن تدع صوت أمك يتمزق خلفك وأنت تغادر البيت إلى حيث تستدعيك رغائبك الجائرة، لن تنصت لصوت نفسك الذي يخالط صوت أبيك وهو يدعوك إلى ما يحب أن تكون، أتيت هنا تحفك رغبة عارمة كي تعيد الطريق من بدايته كي تمشي ثانية من النقطة الأولى كي ترسم بعين أبيك وقلب أمك طريقاً آخر جديداً، ترفع رجلك من طريقك الموحل وتضع خطوتك الأولى في طريقك الجديد، أتيت هنا كي تحرث الأرض بعيونك كي تستخرج كمائنها الغادرة التي اقتنصت ذات مساء موحل قدمك اليمنى عندما التفت ساقك.. خطواتك عندما انحنت عن طريقها الذي كنت تسلكه كعادتك آمناً مطمئناً. عندما أوقف سيارته الزرقاء بقربك وفتح النافذة ودعاك إلى الركوب، اختلجت خطاك، ارتبك دمك، ارفضّ العرق من أعلى جبينك، تتابعت أنفاسك مع كل كلمة خفيفة ثقيلة يقذفها صاحبك الجديد في مسمعك، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، شعرت بضياع مفاجئ، لم تسعفك رصانتك التي نشقتها من ريح أبيك ومن سيرة جدك الطاهرة، هاهي تتلاشى بين أنفاسك، ضاعت رائحة عرق أبيك، تضوّعت رائحة أخرى شيقة متمكنة ضعفت ثم انهرت أمامها، كان صاحبك ذكياً وربما محظوظاً، أدرك أين يصيب هدفه بين غابات نجاحاتك بين شموخ اعتدالك فأصاب نقطة ضعيفة صغيرة كنت تكفكفها كلما نبت برعمها كنت قوياً شديداً، لا تُخضع نفسك لتجاربك الداخلية السرية، كنت منتصراً على الدوام، لكن صاحبك حدد هدفه تماماً أمسك بسلاحه باقتدار، ركز بصره على نقطة الهدف المراد وأطلق دون تردد شباكه الهلامية الرجراجة، شباكاً تضوّع عطرها فأصابك خدر لذيذ لم تقو نفسك رده وإن كنت نفسك تصحو كصحو الشمس بين غيوم متلبدة لكن صاحبك سرعان ما يدرك ذلك فيضاعف امتداد شباكه كي تحكم نفسها عليك تماماً ولا تجد بصيص ضوء قديم طالما غشاك، نزلت من سيارته ودخلت بيتاً أعدّه لرفقته كانوا مجتمعين يعبث الليل بأوردتهم ويسير الشقاء في مسارب نفوسهم لكنهم مستمتعين يرقصون.. يشربون.. يغنون كانت الجبال التي بنيتها من كلمات أبيك وأمك وقرأت نورها في كتب مكتبتك تتضعضع وتتهاوى، مددت يدك وشربت مراراً، سافرت بعيداً، هناك أخذت تتلو على الجميع كلمات جديدة على مسامعهم وكأنك كنت تفرغ ما تبقى في نفسك من كلمات عذبة رقراقة طالما كنت تكتبها في دفاترك الخاصة، كانت كلماتهم كبيرة جوفاء وكنت تغوص في أجوائها تستخرج لذائذها، لم تكن تعلم أن ثمة لذائذ أخرى مغمورة داخلك لم تستبنها ولم تحاول اصطيادها من أغوار نفسك، ثملت بكلماتهم وكانت هناك أصوات ناعمة تحرث بقايا نفسك فتخرج من صدرك تأوهات عاشق مدنف، سبحت طويلاً في غمار اللذة، ويوماً بعد يوم كنت تغوص وتغوص إلى أن أبعدت كثيراً عن عين المكان الذي ربيت فيه، ها أنت تعود إلى عين المكان إلى لحظة التفاف ساقك إلى لحظة رفع قدمك من الأرض والتفاف خطواتك عندما هممت بالركوب بجانب صاحبك، وقفت في عين المكان، نظرت نحو كل شيء حولك، كنت تعاتب التراب، كيف سمح لك، كنت تعاتب الهواء لمَ لمْ يُحضر في تلك اللحظة رائحة عرق أبيك الزكية، كنت تعاتب الخطوات الآتية كيف تركتني أخطو بعيداً عنك ولم تكترثي، وقفت في عين المكان تخاطب نفسك تقتلع جثث أسراب الطيور السوداء المتعفنة داخلك، كنت تعبّ من الهواء لتطرد الهواء الآسن من رئتيك، تخلل أذنيك صوت دعاء أمك لك، صوت أبيك وهو يمسك رأسك أمام أصحابه ويفخر بك، كان صدرك يعلو شيئاً فشيئاً، كانت دموعك تتفجر داخل نفسك وفي لحظة مباغتة انفجرت عيناك ببكاء صامت.
ذو صلة