مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

رحيل المفكر الإسلامي مصطفى الشكعة

عن عمر يناهز 94 عاماً رحل د.مصطفى الشكعة وهو أحد طليعة المفكرين المستنيرين والمؤلفين المقتدرين الذين أغنوا المكتبة الإسلامية المعاصرة بعشرات من المؤلفات القيمة، وأحد أساتذة الأدب واللغة العربية والفكر الإسلامي المشهود لهم بالكفاءة العالية، والدراية الواسعة، والثقافة المعمقة، والأداء المتميز للرسالة التربوية الجامعية في تنشئة الأجيال على حب الثقافة الإسلامية وتعزيز الارتباط بها، والتعلق باللغة العربية والعمل على خدمتها.

يأتي في مقدمة مؤلفات الشكعة: كتاب (إسلام بلا مذاهب) الذي يعدُّ من الكتب التي أسست لثقافة التقريب بين المسلمين، كتاب (البيان المحمدي) وهو مرجع مهم في دراسة الخصائص البيانية للأحاديث النبوية، وكتاب (المغرب والأندلس: آفاق إسلامية وحضارة إنسانية ومباحث أدبية)، الذي عالج فيه برؤية متفتحة أثر الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس والثقافة الغربية، وكتاب (الأئمة الأربعة)، الذي ترجم فيه للأئمة الأربعة، وكتاب (الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته)، الذي فنـد فيه المزاعم الباطلة التي روجها بعض من المؤلفين من العرب والأوروبيين عن ابن خلدون، وكتاب (الأدب في موكب الحضارة الإسلامية)، الذي هو تأصيل علمي لدور الأدب في بناء الحضارة، وكتاب (المطالعات الإسلامية في العقيدة والفكر) وهو من الكتب التوجيهية التي تقدم للأجيال الجديدة جوانب مشرقة من الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية.
بالإضافة إلى كتب (فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين) و(بديع الزمان الهمذاني رائد القصة العربية والمقالة الصحفية) و(أبو الطيب المتنبي في مصر والعراق) و(معالم الحضارة الإسلامية)، وله كتابان باللغة الإنجليزية هما: (مقالات في الدراسات الإسلامية) و(التربية والتعليم في العالم العربي).
ولد د.مصطفى الشكعة في أغسطس 1917م بقرية محلة مرحوم بمحافظة الغربية, وحصل علي ليسانس الآداب من جامعة القاهرة عام 1944، ثم الدكتوراه في الآداب عام 1954.
بدأ حياته العملية مدرساً بالتعليم الثانوي في الفترة (1944-1949) ثم خبيراً بالتخطيط الاجتماعي (1949-1956) إلى أن التحق بالتدريس في الجامعة وعمل مدرساً بكلية الآداب، جامعة عين شمس عام 1956، ثم عين عميداً لها, وانتدب للعمل مستشاراً ثقافياً بواشنطن (1960-1965), حيث أسس لجيل العلماء والباحثين المصريين الذين درسوا بالولايات المتحدة الأميركية.
وفي السبعينيات والثمانينيات عمل أستاذاً في ثلاث جامعات عربية هي جامعة بيروت العربية وجامعة أم درمان وجامعة الإمارات العربية. وهو أحد المفكرين البارزين، وعضو مجمع البحوث الإسلامية والعميد الأسبق لكلية الآداب جامعة عين شمس، وعضو مجمع اللغة العربية, ورئيس لجنة التعريف بالإسلام بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وعضو لجنة الحوار الإسلامي المسيحي بالأزهر الشريف، وواحد من أهم المدافعين عن الإسلام ضد مظاهر الغلو والتفريط والهجمات الشرسة، التي يتعرض لها هذا الدين. وكان الشكعة أحد أبناء دعوة الإخوان المسلمين، ومن أقرب طلابها للإمام الشهيد حسن البنا حيث كان يراه (رجلاً طيب السمت، ساحراً حين يتكلم، إلى درجة تجعل كل من يستمع إليه يتعلق به، وكانت آيات الكتاب العزيز تجري على لسانه استشهاداً بكل قضية يثيرها، ويكاد يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بذلك كان واحداً من دعاة الإسلام التاريخيين، وامتداداً لشباب الصحابة نقاءً وحماساً وتفرغاً لدعوته. حباه الله بالقبول، ثم موهبة الخطابة والتعامل الجيد مع الناس، وحفظ أسماء من يقابلهم بشكل مثير لدرجة أنه كان يعرف أسماء أسر كاملة؛ مما قربه إلى قلوب الناس).
وكثيراً ما كان يتساءل في حواراته, ولقاءاته الصحفية: كيف يتأتى لأمة العلم والإيمان أن تجتاز هذه الأزمة التي تعد وصمة عار في جبينها؟, فكانت إجابته (إن العالم الإسلامي لا يهتم بالعلم كما ينبغي بالرغم من أهميته القصوى، وبالرغم من ريادتنا في هذا المجال إلا أننا تخلفنا كثيراً عن ركب العلم في الدنيا كلها، فالجامعات في العالم الإسلامي على سبيل المثال كثيرة، ولكنها لا تقوم بالتعليم, وتضيف هذه الجامعات سنوياً أرقاماً كبيرة لطوابير العاطلين في عالمنا الإسلامي، ومراكز أبحاثنا عقيمة لأنه لا يوجد المناخ المشجع لعملها فضلاً عن عجز المناهج التعليمية في كثير من بلداننا عن مواكبة التكنولوجيا التي تتطور يومياً، ومحاولات التغريب في هذه المناهج والمقررات أدت إلى خلق أجيال من الطلاب المفرغين ذهنياً وعلمياً، الأمر الذي أدى بدوره إلى نقص الكوادر العلمية القادرة على مواكبة ما يحدث في العالم فاضطررنا لاستيراد كل ما نحتاجه من الغرب حتى لو قلت قيمته، وأرى أن عالمنا الإسلامي لن يتقدم إلا إذا فعلنا دور العلم في حياتنا، واهتممنا به بصورة لائقة)، وكان يرى أنه لا بد من إعادة النظر في أقسام التعليم ومؤسساته في عالمنا الإسلامي حتى تسترد الأمة الإسلامية مكانتها اللائقة بين الأمم. ومن القضايا أيضاً التي شُغل بها (فلسطين) التي ضاعت بسبب ضعف المسلمين وتخاذلهم، وكان يردد (لا أريد أن يتسلل اليأس إلى صدورنا، فهذه ليست المرة الأولى التي تضيع فيها القدس من أيدي المسلمين، فالتاريخ يسجل أن القدس ظلت في أيدي الصليبيين نحو مائة عام حتى رزق الله المسلمين زعيماً قوياً وحدهم، وتجاوز بهم ضعفهم، فحررها صلاح الدين) و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فإذا غيرنا ما بأنفسنا سياسياً واقتصادياً واجتماعياً والتزمنا بالإسلام فسوف يوقن اليهود بأنهم مهزومون لا محالة.
ويُعد كتابه (إسلام بلا مذاهب) من أبرز مؤلفاته, وصدرت منه أكثر من خمس وعشرين طبعة، و قدم له شيخ الأزهر الراحل الدكتور محمود شلتوت في عام 1960 موضحاً أن الشكعة عرض فيه للعقيدة الإسلامية عرضاً بيناً واضحاً ميسراً يتفق مع ما جاء به القرآن الكريم والسنة الصحيحة, وأبان بأسلوب سهل موافقة هذه العقيدة للفطرة الإنسانية السليمة, وملاءمتها لحكم العقل الناضج المفكر, ومجانبتها للتعقيد الفلسفي الناشئ من خطأ الفكر وفساد الرأي, وتعرض لدفع بعض الشبه التي كثر حولها الجدل في الأيام الأخيرة, كتعدد الزوجات ومسألة الرق, فأبان وجهة نظر الإسلام في هذه الموضوعات وقارن بين ما جاء به غيره من الأديان وما عليه العمل الآن في بعض الدول التي يُظن أنها بلغت من الحضارة ما لم تبلغه أمة. وكان عرضه هذا عرضاً جميلاً, ورده قوياً يقنع كل من طلب معرفة الحق ورغب فيه, كما تناول الفرق الإسلامية الغلاة منهم والمعتدلين, حيث تكلم عن كل فرقة, وكيف نشأت, وكيف تطورت وذلك بأسلوب المؤرخ الأمين, ولكن في هوادة ولين لا تثير فتنة, ولا تورث ضغينة, ولا تبعث عصبية, وفى تناوله لفرق الغلاة بين سبب غلوهم في رقة من يخشى على وحدة الأمة أن تتصدع.

ذو صلة