تلقى الوسط الثقافي في المملكة ببالغ الحزن والأسى نبأ وفاة علم من أعلام الثقافة والفكر، هو الأستاذ عبدالله أحمد عبدالجبار الذي انتقل إلى جوار ربه بمكة المكرمة فجر يوم السبت 4 جمادى الآخرة 1432هـ الموافق 7 مايو 2011م عن 94 عاماً. ويعد عبدالجبار بحق شيخ النقاد في المملكة، فالراحل العظيم له دوره التربوي والتنويري في الفترة التي قضاها في التعليم سواء عندما كان مدرساً فمديراً للمعهد السعودي ومدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة 1359-1368هـ وانتقاله إلى مصر مراقباً للبعثات التعليمية السعودية بالقاهرة فمديراً لها.
قابلته للمرة الثانية بمنزله في حي الأمير فواز بجدة في شهر رمضان 1418هـ وسجلت معه حديثاً ضمن برنامج (التاريخ الشفوي للمملكة) بمكتبة الملك فهد الوطنية، فتحدث باستفاضة وبوح صادق عن موجز وملخص لسيرته منذ مولده وطفولته بمكة المكرمة، حيث ولد بسوق الليل لأسرة تعمل بالطوافة، وتلقى تعليمه الأولي في كتاب الفقيهة جواهر عبدالهادي الأشية إذ حفظ قصار السور من القرآن الكريم وبدايات الكتابة والقراءة والحساب، التحق بعدها بالمدرسة الفخرية، ثم انتقل بعدها لمدرسة الفلاح، حيث حصل على الشهادة الثانوية عام 1355هـ، وانضم بعد ذلك للبعثة الطلابية الثانية إلى مصر ليحصل على الشهادة الجامعية في اللغة العربية وآدابها من كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول، إذ قضى بها أربع سنوات، عاد بعدها للمملكة مدرساً بالمعهد السعودي ومدرسة تحضير البعثات حتى عام 1359هـ 1940م. وكان وقتها الأستاذ أحمد العربي مديراً للمعهد، واضطلع بتدريس اللغة العربية وآدابها، وكان زميله الأستاذ عبدالكريم الجهيمان يدرس العلوم الدينية.
كان عبدالجبار منفتحاً على المذاهب الأدبية الحديثة ومطلعاً على مدارسها المتعددة، أما زميله الجهيمان فكان متشدداً إذ لم يخرج من المحيط الجغرافي الضيق بين نجد والحجاز وبحكم تربيته الدينية المحافظة، كان وهو في طريقه من منزله إلى المعهد أو إلى المسجد الحرام يمر بمقاهٍ وحوانيت يوجد بها أجهزة راديو منها ما يذيع الأحاديث والأخبار ومنها ما يبث الأغاني والموسيقى؛ فكان لا يتورع عن سد أذنيه عند سماعه شيئاً من تلك الأغاني خشية أن يلحقه الإثم. فكان لابد أن يقع بين الزميلين ما يشوب علاقتهما بشيء من الفتور، قد يصل حد النفور، مما حدا بالجهيمان إلى حمل الموضوع إلى مدير المعهد أحمد العربي بأن عبدالجبار يدرس طلبته شيئاً من شعر المجون والتحلل خصوصاً وقد جاءهم الأخير من مصر وقد حلق ذقنه مما حمل الجهيمان إلى كتابة رسالة مطولة عنوانها: (حوار طريف بين ذي لحية ومحلوقها) حملها الأستاذ العربي معه لمصر لتطبع بكتيب مازال متداولاً بين الجميع.
استمر الأستاذ عبدالجبار معلماً لآداب اللغة العربية وعلم النفس لطلبة المعهد ومدرسة تحضير البعثات حتى أصبح مديراً للمعهد عام 1366هـ إضافة لتدريسه طلبة مدرسة تحضير البعثات.
عاد عبدالجبار مرة أخرى لمصر حيث عين مراقباً للبعثات الطلابية السعودية نهاية الستينيات الهجرية الأربعينيات الميلادية. ثم أصبح مديراً لها فيما بعد، فتعرف على عدد من أدباء وكتاب مصر منهم: محمد عبدالمنعم خفاجي وعلي شلش ومصطفى السحرتي ومحمد مندور، حيث انضم معهم إلى رابطة الأدب الحديث التي يرأسها مصطفى السحرتي، وقد اختير العبدالجبار وكيلاً لها. وإلى جانب مشاركته محمد عبدالمنعم خفاجي في تأليف كتاب (قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي) وذلك في مقهى (سان سوسية بالقاهرة)، كما أسس صالونه الأدبي في منزله بالجزيرة المطل على النيل مساء الخميس من كل أسبوع.
قيل عن ندوته الأسبوعية: إنها غنية بالحوار الفكري والثقافي والأدبي والنقدي، وكان ممن يحضر هذا الملتقى أو الصالون أو الندوة من السعوديين: محمد سعيد بابصيل، وحمزة شحاته، وإبراهيم الفلالي وإبراهيم فودة وحمد الجاسر ومحمد حسن عواد وضياء الدين رجب وعابد خزندار وعبدالله الخطيب وحسن القرشي وعبدالله القصيمي وغيرهم من العلماء والأدباء السعوديين الذين يزورون مصر، وممن يحضرها من الأدباء المصريين محمد عبدالمنعم خفاجي ومصطفى عبداللطيف السحرتي ومحمد مندور والعوضي الوكيل وعلي شلش وأنور المصراوي وعبدالقادر القط وسمير سرحان ومحمود السعدني وإبراهيم عبدالرحمن المحامي ومن لبنان نبيل راغب.
هذا وقد زرته منتصف العام 1418هـ مع زميله القديم بالمعهد السعودي قبل ستين عاماً الأستاذ الجهيمان عن طريق الأستاذ الخزندار، وقد احتفيا ببعض وتعانقا بشوق وكل واحد منهما يعتذر للآخر، وعندما كرر الجهيمان اعتذاره رد عليه العبدالجبار قائلاً: «مسامحك من زمان، تاريخك المشرف وأعمالك الثقافية يشفعان لك».. فتبادلا ذكريات المعهد وشقاوة الشباب وكان كل واحد منهما يدعي أنه أسن من الآخر.
وقد أهدانا صوراً لكتابه المطبوع والمخطوط بجزأيه وهو: (التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية) (الشعر)، وهو المطبوع، والثاني المخطوط (فن المقالة) وقد كتب عليه الإهداء التالي: للصديق العزيز الأديب والإنسان الشهم الأستاذ محمد القشعمي تحية ود وتقدير. 16 رمضان 1418هـ.
أما الكتاب الأول والخاص بالشعر والمطبوع فقد أهدانيه في زيارتي الأولى له مع الأستاذين الجهيمان والخزندار، وجاء في الإهداء: إلى الأخ العزيز الذي يقوم برسالة تجميع المفكرين والأدباء الأستاذ محمد القشعمي مع أطيب التحية وأعظم التقدير.. توقيع 22 جمادى الآخرة 1418هـ.
هذا وقد كرم الأستاذ عبدالله عبدالجبار في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) عام 2005، وسمي شارع باسمه بجدة. ومن أهم مؤلفاته: التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية، الغزو الفكري، قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي بالاشتراك مع الناقد المصري محمد عبدالمنعم خفاجي.
وقد قام الأستاذان الكريمان محمد سعيد طيب وعبدالله فراج الشريف بعمل جليل يشكران عليه، إذ تبنيا جمع وإعادة طبع جميع إنتاجه الأدبي المطبوع والمنشور في الصحافة والدوريات في سبعة أجزاء وذلك عام 1429هـ حيث نشرتها مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي لمعالي الأستاذ أحمد زكي يماني. وقد ضمت مجموعة أعماله الكاملة سبعة مجلدات الأول والثاني منها كتابه الأشهر (التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية) حيث خصص المجلد الأول للشعر والمجلد الثاني للنثر، وهو الذي كان متداولاً مطبوعاً بالآلة الكاتبة، والمجلد الثالث ضم كتاب (قصة الأدب في الحجاز) والرابع ضم بحوث الأستاذ وإبداعاته. والخامس ضم مقدماته التي كتبها بعض الأدباء والمفكرين، والسادس ضم مقالاته التي نشرت عبر الصحف، وأخيراً المجلد السابع وضم ما كتب عنه.
هذا وقد زاره الأساتذة عباس طاشكندي، ومحمد سعيد طيب ومعالي أحمد زكي يماني وعبدالله الشريف بمنزل أخته بمكة المكرمة حيث عاش سنواته الأخيرة، وقدموا له العمل بعد اكتماله وأخذوا صوراً تذكارية معه. رحم الله من خلد اسمه بأعماله الفكرية الدائمة التي ستتناولها الأجيال من بعده، إذ لم يخلف ولداً فقد عاش بلا زوج طوال حياته رحمه الله.