مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

النافذة

كل ما كانت تحلم به أن ترى العالم من خلال النافذة، لكن هذا كان شبه مستحيل في منزلها القديم المنخفض كثيراً عن الشارع.
كلما هدم أحدهم منزله الطيني، وبنى آخر بالطوب الأحمر؛ ألقى أكواماً من التراب والهدم في شوارع الحارة الضيقة، لتزداد ارتفاعاً وتنخفض النافذة أكثر فأكثر حتى تكاد تدفن.
نافذتها المنخفضة لم تسمح لها برؤية شيءٍ سوى الأقدام والكائنات الصغيرة، كانت تفتح النافذة كل صباح فلا تجد سوى أقدام تهرول متأخرة عن العمل، وأخرى كأنها تسير على قطع من الزجاج. خطوات جادة تخترق الشارع، وأخرى تتمايل كأنها تؤدي رقصة ما.
أصبحت تعرف المرأة التي تقتحم الشارع بأرجل ممتلئة راسخة الخطوات وصوت مميز، إنها (المِعلمة صباح) تاجرة الفاكهة، ما إن تدخل الحارة حتى يمتلئ الهواء بالصخب الممزوج بالحياة والبهجة، أحياناً تكون بمفردها متأنية الخطوات، وأحياناً يصاحب مشيتها المسرعة عربة الكارو، وأقدام الحصان الهزيل، وبعض الأحذية المهترئة للعمال الذين يمدون في سيرهم للحاق بها.
في الظهيرة ترفرف الأثواب البيضاء بأرجل نظيفة لامعة تسكن النعال، ليشكلا معاً خطوات بطيئة وهينة على الأرض. أكثرهم يتكئون على عصيانهم، يحاولون اللحاق بالمصلين في الزاوية الصغيرة على أطراف الحارة، وآخرون مهرولون يخترقون الحارة كالسهام.
بعد عدة دقائق تكون الحارة على موعد مع الأقدام الصغيرة العائدة من المدرسة، أحياناً يسيرون في مجموعات هادئة، أو يركضون، فيمتلئ الهواء بالتراب. لم تنسَ أبداً اليوم الذي تجمع فيه حشد من الطلاب حول أضعفهم وأبرحوه ضرباً، فسقط على الأرض، كانت هذه من المواقف القليلة التي يظهر فيها وجه الإنسان، كانت رأسه تنزف، وما زالت الأقدام تركله، حاولت أن تخرج رأسها أكثر لترى وجه المعتدين لكن كل ما استطاعت أن تراه هو سيقانهم الطويلة الممتدة إلى أعلى ورؤوسهم الصغيرة المائلة، صرخت بصوت عالٍ عليهم أن يتوقفوا لكن لم يسمعها أحد، بعد دقائق تركوا الضحية على الأرض ورحلوا.
أخذت تتأمل ملامحه المتسخة بالدم والتراب ومحاولاته لإزالة آثار الهزيمة من على وجهه والنهوض، وبدأ يختفي تدريجياً من المشهد أمام النافذة وهو يعرج متمايلاً محاولاً السير باستقامةٍ من جديد.
العالم كان غريباً جداً من منظور الأقدام والخطوات، لذا كانت تحاول كل يوم أن تخمن كيف هو النصف العلوي المفقود لتكتمل الصورة، فالدراجات التي تسير بحركات متأرجحة ربما يحمل صاحبها على كتفه قفصاً مليئاً بالخبز أو قطعاً خشبيةً متجهاً بها إلى ورشة الحاج فتحي، والدراجات التي تسير بسرعة متزنة فهي غالباً للموظفين العائدين للعمل، الأقدام التي لها رفيق يسيران معاً بتناغم كأنهم يؤدون رقصة ما كانت تشي بالألفة، ولو أن أحدهم أسرع قليلاً وحاول الآخر اللحاق به كانت تخمن أن هناك توتراً ما بينهم.
في يوم ما فتحت النافذة فوجدت عمال البلدية وموظفيها بجوار الجرارات ومعدات الحفر يستعدون لرصف الشارع الترابي، كانت فرحة جداً كأن هناك عصا سحرية تلبي أحلامها.
كل يوم كانت تلاحظ أن النافذة ترتفع قليلاً إلى مستوى الشارع الذي بدأ هو الآخر يهبط تدريجياً، في اليوم الأخير عندما بدأ يكتمل كل شيء كانت النافذة بمحاذاة الناس تماماً تطل على العالم الحقيقي.
وجدت وجوههم أمامها مباشرة كأنما تنظر إليهم من خلال عدسة مكبرة، شعرت بأن هناك خطأ ما في الشارع أو النافذة، لماذا يبدو الناس حقيقيين ووجوههم قريبة جداً بهذا الشكل؟
أخذت تتفحص الوجوه الواجمة والسعيدة، الابتسامات الخفيفة الطبيعية أحياناً، والخبيثة أكثر الوقت، الغضب الكامن خلف الأقنعة، والسماحة نادرة الوجود، الشجارات المستمرة والخوف المطلق، الضحكات الرنانة والحزن.
كل يوم يقتربون بوجوههم ومشاعرهم أكثر من النافذة، كانت تشعر بمزيج قوى من القلق والتوتر، لذا قررت من وقتها أن تغلق النافذة إلى الأبد.

ذو صلة