يتحدث العديد من النقاد الفنيين والمتابعين عن الفنان والحروفي التونسي (نجا المهداوي) على أنه رائد من رواد الرمزية، ويوصف بأنه (مبدع الحروفية)، فأعماله المستوحاة من الخط العربي تعد إبداعاً، حيث إن البعد الجمالي للحروف يضفي إحساساً بشاعرية شديدة الإيقاع، تستوقفنا تشكيلاتها التجريدية الغنية، وهكذا يكشف المفهوم القائم وراء لوحاته عن الأفكار المنقولة نقلاً إبداعياً من خلال الاختيار الفني للمادة والأداة.
وهو بالفعل كان متميزاً في جعل (الحرف العربي) المشهود له بجمالياته وخصوصيته يتراقص مع أدوات (المهداوي) الفنية حتى أنه وفي أعماله المنجزة جعله يتماهى مع جماليات الفنون الأخرى كالموسيقى والرقص والسينما والمسرح، فبرز الحرف من خلال أنامل (المهداوي) بشكله الحيوي المتحرر من أشكال الخطوط الكلاسيكية متناغماً مع مفردات الفنون حتى تكاد اللوحة هنا تعزف على أوتار الموسيقى ومعبرة بشكل ديناميكي وتكنيكي عن المضمون متفاعلة مع الجمهور مبتعدة عن الغموض والرمزية الغارقة في التفاصيل فتأخذنا حتى حدود الإدهاش والاندهاش ومُخَاطَبَتِها بكل ما قدمته اللغة العربية من عبارات وكلمات الإعجاب والتأمل والتفاعل الايجابي والانشراح النفسي والشخصي مع ما نشاهده أمامنا.
رسوم غرافيكية للحروف العربية
وعلى الرغم من أن نقاد ومتابعي أعماله الفنية أطلقوا عليه صفة (مبدع الحروفية) إلا أن الفنان المهداوي يرفض أن يصنف على أنه (حروفي) فهو يرى أن هذا التوصيف نوع من إقصاء الحرف من مجال الفن وقصره على البعد الوظيفي في حين يرى الناقد الفني (عبدالوهاب أبو حديبة) أن المهداوي اختار أن يتكئ على الحرف العربي وكان الخيار حكيماً، طالما أن الحرف هو خط التماس للكينونة والكلمة معاً. فيما يقول (نجا) عن فنه وارتباط الحرف لديه بالتشكيل والزخرفة والإبهار البصري: في استخدامي للرسوم الغرافيكية للحروف العربية، أعمد إلى هدم القسوة من خلال الإيقاع بالقواعد والقوانين الأكاديمية لفن الخط، وهي قيم لزمن آخر ونظام معرفي آخر، بعيداً عن بنية اللغة والتوليفات الهندسية للفعل وتعلم تركيب الجملة.
وبالفعل فالمهداوي طوع الحرف وقولبه كما ترغب مخيلته الإبداعية اللامحدودة وثقافته الواسعة المتكئة على مخزون حضاري وإرث معرفي كبير تتماهى فيها الثقافة العربية الإسلامية مع الثقافة البربرية، مع اطلاع واسع على تجارب فنانين عالميين عملوا على الحرف لإنجاز لوحة فنية متفردة ولكنه جاء متفرداً عنهم فقدم أعمالاً لا تشبه إلا نفسها بحيث تجعل المتلقي والمشاهد يعرف ومن النظرة الأولى أن هذه أعمال (نجا المهداوي).
صَوَّر الأساطير والميثولوجيا والمخطوطات كما قدّم الطبل التونسي
لقد صور (نجا) الأسطورة والميثولوجيا، والحكايات والمخطوطات، فعلى سبيل المثال، صوّر قصصاً من مجموعة حكايات (ألف ليلة وليلة) والتي كانت موضوعاً للنسخة الفرنسية، وبهذا يذكرنا بمدى التأثير الهائل للأدب العربي والثقافة العربية على عالمنا. وكما كان المهداوي واسعاً موسوعياً في تصوير ورسم وإبداع تجارب تحاكي ثقافات العالم فإنه لم يبتعد أيضاً عن إرثه وثقافاته التونسية فقدم تجربة فنية متميزة من خلال تصويره (الطبل التونسي) فوضع عليه بصمته الحروفية والزخرفية الخاصة وقدمه لأول مرة في معرض أدهش فيه الجمهور البريطاني كما جعل الصحافة البريطانية المحلية تتحدث عنه بكثير من الشغف والانبهار.
في أعمال المهداوي يبرز أسلوبه المتفرد بالتعامل مع الحرف العربي والتشكيل واللون حيث يعتمد دائماً على اعتبار أن الحرف سلطان وأي شيء في أعماله حول الحرف هو لثقافة معينة ولذلك كل ما يراه ويشاهده الزائرون من زخارف وتشكيل يأتي لخدمة الحرف فله الكلمة والسلطنة في أعماله وهو ما أُطْلِقَ عليه (الجانب الروحاني في الحروف) وعبر تجربته المستمرة منذ أكثر من نصف قرن لم يقدم نفسه كخطاط ولا كفنان تشكيلي وليس حروفياً بل قدم نفسه كإنسان مغرم بالعمل الفني ولديه موقف في سياسة ثقافية معينة، وهو موقف حضاري يلخص بالتالي: كيف نحاول فرض شيء معين بلغة ولهجة اليوم وندخل في الحوار والدخول في دوامة العولمة واحترام ثقافة الآخر ولكن مع الخروج من مفهوم التبعية العمياء، مع محاولة تقديم ثقافتنا بمفهومها العميق والقراءة الجديدة للإرث الحضاري وهو للجميع ونقدمه لأبناء الكون ولنتحاور مع الثقافات الأخرى بقصد الإثراء وليس لشيء آخر، ولذلك قدم من خلال أعماله تشكيلاً حروفياً حراً من باب الثقافة والحضارة والموقف والكلمة ذات الوزن والمعنى. وحول الأدوات التي يستخدمها يؤكد المهداوي في أحاديثه الفنية وحواراته أنه يكفي تكرار وإعادة أي شيء ولنحاول اليوم تقديم رؤية جديدة مع المحافظة على كنوزنا التراثية الموجودة بين أيدينا والتي جاءتنا عن أجدادنا الذين عاشوا في قرون وعهود أخرى فلنقدمها ولكن بلغة العصر الحالي مع عدم خوفنا من الكمبيوتر أو من الاكتشافات الحديثة ومع عدم جمودنا هنا بل علينا أن نبتكر ونقدم الأشياء الجديدة من خلال قراءة جديدة لتراثنا ليس كشيء جامد بل كمتحرك.
توظيف اللون في أعماله بشكله المتوازن
لقد حَرِصَ (المهداوي) عبر مسيرته الفنية الطويلة على تحقيق قضيته ورسالته في الرسم وهي كما تحدث عنها في أحد لقاءاتي معه على هامش أحد معارضه الفنية: أولاً السعي إلى الإبداع وإرادة الإفلات من المتاهة الثقافية التي تجبرنا على الإذعان لنوع محدد، أو لأسلوب مسبق ومنجز، كان لا بد لي فكرياً وثقافياً أن أبدأ بتفكيك الأشكال وتأثيرات المدارس الأخرى، ثم كان من الضرورة أن أباشر في تعرية الشكل المكتوب (القواعد الرموز الثقافية) الحروف، الإشارات، الرسائل، الكلمات والرموز، فالقضية هي قضية تخطي الشيفرة والانفصال عن الكتابة العلمية للفعل المرئي وعن السلطة الموجبة للمعلن وغير المعلن.
لقد عمل (نجا المهداوي) على تأسيس أسلوب فني ربما يكون خاصاً به، ولذلك تنوعت تجربته الفنية العريقة، كما أنه وظّف اللون في لوحاته بشكل متوازن بعيداً إلى حدٍّ ما عن الإبهار البصري حتى لا يتوه المشاهد عن الهدف الأساسي في لوحته وهو (الحرف)، ومع ذلك فهو استخدم اللون بمختلف درجاته لخدمة العمل الفني والحرف، ليحقق هنا بهجة للمتلقي وليس بهرجة بصرية يختلط فيها اللون الفاقع مع الحرف والتشكيل، وبالتأكيد مع وجود رئيسي للونين الأبيض والأسود ومدلولاتهما الرمزية والفلسفية في الخط العربي وفنونه المختلفة، وحقق بذلك نجاحاً مهماً فجاءت أعماله متزنة دون جمود في التركيز على جانب واحد في الفن والإبداع، رشيقة كرشاقة الحرف العربي وجمالياته وكخصوصية لغتنا العربية، متنوعة في هندستها وزخرفتها حتى تكاد اللوحة تنطق بمكنوناتها، يأخذنا (المهداوي) في لوحاته إلى حد الاندهاش وهو يقدم الحرف والكلمة والعبارة والمقولة، فنقف طويلاً أمامها متسمرين، لا تحرك عينيك عنها لتحصل كمشاهد على أكبر قدر من الاستمتاع البصري والفكري والتعبيري ليشكل لك مخزوناً ثقافياً وجمالياً تتحدث عنه بكثير من الشوق، وتتوق لمشاهدة هذه الأعمال مرة ثانية وثالثة.
تجربته تمثل نصاً بصرياً متفرداً
يرى الفنان والناقد التشكيلي (طلال معلا) أن تجربة الفنان المهداوي هي إحدى التجارب المؤسسة على المستوى العربي لما دُعِيَ أحياناً بـ(الحروفية) أو الأعمال التشكيلية المستندة إلى الكتابة العربية أحياناً أخرى، وتجربة المهداوي إذ تشكل مختلف الحواشي والتفسيرات والتعليقات جزءاً أساسياً من القوسين الذين يضمان تجربته المتأثرة بشكل كبير بتركيبة الفنان الحيوية، واعتباره أن هذه التجربة تمثل نصاً بصرياً واحداً، عمل على بنائه بمختلف المواد وعبر مختلف التطلعات التعبيرية للإفصاح عن الأسئلة الأولى التي طرحها منذ البداية على نفسه وهو بمواجهة المعتاد عربياً والمهيمن غربياً، وهي نقطة أساسية على مستوى تأريخ تجربته باعتباره رائداً من رواد المرسوم الخطي العربي.
من جهته الكاتب الصحفي (رمزي العياري) يؤكد أن نجا المهداوي لم يكن ينتمي لمدارس الخط العربي أو خطاطاً منمقاً للحرف، يحسن التقليد، أسيراً لتقنيات الكتابة كما الخطّاطين القدامى الذين سيجوا الحروف وأسروها في تقنيات تشبه القوانين التي لا محيد عنها، بل كان (حروفياً) مأخوذاً بظلال الحروف العربية المسكونة بالحنايا والمنعرجات والسهول والوهاد والقباب والانفتاحات والشرفات، ومدهوشاً بمراوغات التنقيط وتائهاً في تجويفة حرف النون وصاعداً إلى أعالي الألف ومنحنيات اللام ومتاهات الضاد.
معارض ومقتنيات ومنجزات في الكثير من بلدان العالم
تقول بطاقة المهداوي أنه من مواليد تونس (1937) تخرج من أكاديمية (سانتا أندريا) في روما، ومن معهد متحف اللوفر في باريس في عام 1967، ثم تابع تدريبه الأكاديمي في المدينة الدولية للفنون (Cite Internationale des Arts) في باريس، بموجب منحة زمالة من الحكومة التونسية. والحروفي الفنان (نجا) عضو محكم وضيف شرف في عدد من التظاهرات والمهرجانات العالمية، وهو أيضاً عضو لجنة تحكيم جائزة اليونسكو للفنون.
لقد شارك (المهداوي) في العديد من المعارض في بلدان العالم المختلفة وأقام العديد من المعارض الشخصية في هذه البدان، كما ساهم في المشاريع الفنية، حيث مثلت لوحاته أداءً فنياً في إطار المسرح والرقص، كما صمم أعمالاً فنية مهمة كتلك التي نفذها في مَطاريْ جدة والرياض بالمملكة العربية السعودية، وكذلك أعماله على طائرات شركة طيران الخليج (Gulf Air) إلى جانب ذلك، تم عرض أعماله في معارض فنية دولية أقيمت في: (بازل، باريس، أبو ظبي ودبي) كما قدمت لوحاته على نطاق واسع حول العالم، كذلك كانت حاضرة وتم اقتناؤها في العديد من المجموعات الخاصة والعامة مثل المتحف البريطاني ومتحف (سميثونيان) في العاصمة الأمريكية واشنطن.
ومؤخراً صدر كتاب جماعي عن المهداوي قدمه كـ(فنان عالمي) مأخوذ من ندوة تكريمية ومعرض أقيما في المركز الثقافي الدولي (دار سيباستيان) في مدينة الحمامات التونسية في شهر فبراير عام 2020 عن تجربة الفنان المهداوي أصدره دار المتوسط للثقافة والفنون ضمن سلسلة (كراسات دار سيباستيان) أشرف على إعداده الباحث والناقد الفني (محمد المي) ضم الكتاب شهادات لفنانين ونقاد معروفين عن تجربة (نجا المهداوي) في الحرف والفن والتشكيل وتجاوزها المحلية إلى العالمية.