عن رواية (وراء عينيها) للمؤلفة البريطانية (سارة بينبورو)، قدمت منصة (نتفلكس) مسلسلاً من ست حلقات بنفس الاسم، كتب السيناريو له (ستيف لايتفوت) وأخرجه (إريك ريختر ستراند)، ومن بطولة (سيمونا براون) في دور (لويز)، و(إيف هيوسون) في دور (أديل) و(توم بيتمان) في دور (ديفيد)، و(روبرت أرامايو) في دور (روب).
ينجح السيناريو في زرع التوتر والتشويق معاً منذ بداية المسلسل، رغم أنها تبدو تقليدية للغاية، حيث اللقاء الكلاسيكي بين رجل وامرأة (meet cute)، ومع ذلك نلحظ على ديفيد توتراً متصاعداً لا نعلم سببه، نكتشف لاحقاً أنه متزوج، وغير سعيد في حياته الزوجية، ونظن أن سبب توتره هو شعوره بالذنب، ولكن علاقته مع زوجته شديدة الغرابة وتثير الحيرة.
لدينا إذن مثلث حب كلاسيكي، ورغم أن هذا النوع من العلاقات قد قتل بحثاً في الدراما، ولم يعد من الممكن أن نجد فيه جديداً، إلا أن ما يجعلنا مترقبين هو حالة الزوجين ديفيد وأديل، التي تشي بأن هناك سراً كبيراً ستكشفه الأحداث.
الضلع الأول في المثلث هي لويز، أم عزباء تعيش مع ابنها آدم، نعتقد في البداية أن طليقها هرب مع عشيقته أو هجرها لأنه مدمن مخدرات مثلما اعتادت الدراما الأمريكية تقديم تلك الحالات، إلا أننا نفاجأ أنه رجل صالح وزوج وأب مثالي، ولديه أسرة جديدة يعيش معها بسعادة، نفهم لاحقاً أن لويز هي امرأة مسرنمة، أي تسير خلال نومها، وهو ما يضعها في مواقف مزعجة أفسدت عليها زواجها، وتجد في ديفيد الرجل الذي شعرت تجاهه لأول مرة منذ زمن بمشاعر كانت قد نسيتها.
الضلع الثاني هو ديفيد، طبيب نفسي ممتاز، رغم أنه لا يجيد المحادثات الاجتماعية التقليدية، لكنه مع المرضى يصبح شخصاً آخر، ومع ذلك هو تعيس في حياته الزوجية، مما جعله يضع همومه في إدمان الكحول، علاقته المريبة بزوجته لا يفصح عنها أكثر من كونها مدمنة مخدرات، وهو يقوم بدور طبيبها الذي يساعدها على التعافي من الإدمان، ولذلك يتصل بها في مواعيد محددة ليتأكد من وجودها في المنزل، وليس في الخارج للتعاطي.
الضلع الأخير هو أديل، الزوجة الغامضة، التي تحمل علامات الضعف والضحية من ناحية، وعلامات المكر والقوة من ناحية أخرى، فمن الممكن قراءة الموقف أن زوجها يتحكم فيها، ويغصبها على تناول أنواع من العلاجات الذهانية ليصيبها بالجنون، ولذلك تسعى للخروج من سجنه، ومن الممكن رؤية أن ما تفعله من مصادقة لويز سكرتيرة ديفيد هو الدهاء الخاص لكي تستطيع أن تبعدها عنه لاحقاً، وهو أكثر ما يمثل عوامل الجذب تجاه الشخصية.
مع تقدم الأحداث نستشعر أن هذا العمل يشابه عملاً آخر، فهناك قصة حب مستحيلة بين رجل متزوج وامرأة عزباء، والسبب في استحالتها أنه لا يستطيع تطليق زوجته بسبب سر غامض، وهنا يحدث التناص مع رواية (جين إير)، للكاتبة التي تحمل ذات المواطنة البريطانية (شارلوت برونتي)، حيث تقع جين إير في غرام السيد (روتشستر)، ولكن ما يمنعهما من الزواج، أنه متزوج من سيدة مريضة عقلياً، والقوانين الكنسية في ذلك الوقت لا تسمح بالطلاق، هنا في خلف عينيها، يبدو الأمر مشابهاً تماماً، ديفيد لا يستطيع الفكاك من أسر أديل التي من الواضح أنها غير متزنة، وكلا العملين بهما مسحة من الإثارة أو الرعب الخوارقي، كلا العملين بهما حريق كبير، في القديم يتسبب في فقدان بصر البطل، وفي الحريق يحرق ذراعه، الأمر يتجاوز التناص إذن إلى مرحلة (التطريس)، كما يسميها الناقد والمنظر الفرنسي (جيرار جينيت)، أي تركيب عمل أدبي لاحق فوق عمل أدبي (طرس) سابق عليه، وذلك في عملية استبدال افتراضي، والمسلسل نفسه يعي نفسه ويشير إلى ذلك التشابه مباشرة في حوار يجمع لويز مع صديقتها صوفي.
تعد الأحلام أحد المفاتيح الأساسية لقراءة العمل، وتوظيفاتها الدرامية متعددة ومتنوعة، أولاً هي تكشف عن ماضي الشخصيات، لويز تحلم دائماً بكابوس، ترى فيه أمها وقد انتحرت عن طريق تناول كمية كبيرة من العقاقير، بسبب معاناتها من مرض لم تتمكن من الشفاء منه، وهو الأمر الذي سبب لها (Trauma) أو صدمة نفسية كبيرة، لا تستطيع أن تتجاوزها، وربما بسببها أصبحت تسير وهي نائمة، وأفسدت عليها زواجها وحياتها، كما أن نفس الكابوس يكشف عن خوف لويز وهاجسها الأكبر وهو فقدان ابنها آدم، ولاحقاً تصبح أحلام لويز بمثابة رمز لتطور علاقة الصداقة بين لويز وأديل، أديل التي تخبر لويز أنها تستطيع أن تتخلص من كوابيسها، وأن تتحكم في أحلامها، بحيث تحلم بما تشاء، يبدو الأمر صعباً وهزلياً في البداية، خصوصاً أن أديل تمنحها دليلاً عمليا للتحكم في الأحلام، كتبه مسرنم آخر هو (روب) والذي كان زميلها في مصحة الإدمان، وهو في الحقيقة ما هو إلا مذكرات روب، الذي يقول في إحدى صفحاته: «يقول الأطباء إن هذه الأحلام تمثل شعوري بالذنب تجاه عاداتي» وهكذا اكتشف روب طريقة تغيير مسار الحلم عن طريق البحث عن باب يفتح عالماً آخر من تصميمه، تتمرن لويز على الفكرة وعندما ترى كلاً من ديفيد وأديل يحترقان، تعرف أنها اقتربت، لأنها لم تعد تحلم بالماضي، وإنما بما تشعر بالذنب تجاهه في حاضرها، حتى تتمكن في النهاية من فتح باب على عالم جميل من خيالها، وقتها فقط تنتقل الأحداث في منتصفها، إلى الجزء الأكثر إثارة.
تجربة الإسقاط النجمي، هي تجربة لا يوجد دليل علمي عليها، ولذلك تندرج تحت إطار العلوم الزائفة، ولكن المسلسل ومن قبله الرواية ليسا مصادر علمية، ولذلك نتعامل مع الأمر من زاوية الخيال والفانتازيا، نظرية الإسقاط النجمي إذن تقوم على أن لكل إنسان جسدين: الجسد المادي الملموس، والجسد الروحي وهو الروح، ويدّعي أتباع هذا الفكر أنهُ بواسطة ممارسات معينة، يمكن للجسد الروحي الخروج من الجسد المادي لرؤية عوالم أخرى، ثم العودة فيما بعد، وتجربة الإسقاط النجمي لها عدة تجليات وأنواع، من بينها (الحلم الواعي) وفيها يتحكم الشخص في حلمه، ليوجهه إلى حيث يريد، وهو ما يتقنه روب، وما تعلمته لويز وجعلها تتحكم في كوابيسها لتحلم بما تشاء، ومنها كما ذكر (تجربة الرؤية عن بُعد)، وهي القوة السحرية التي تمتلكها أديل، ولا يدركها ديفيد ولا يستطيع التنبؤ بها، فهو في النهاية لا يمتلك أي معلومات عن قدرة أديل على التحكم في أحلامها، أو أنها تمارس الإسقاط النجمي، وربما حتى لو علم لاعتبره هراء لأنه بعيد جداً عن طريقة تفكيره، ولكنه يعتقد أنها تراقبه بطريقة ما لا يعرف كيف يصل إليها، وحتى نحن كمشاهدين نظل غير مدركين للأمر تمام الإدراك، ولكن لغة المخرج إريك ريختر ستراند البصرية، تجعلنا طوال الوقت نشعر بعدم الارتياح، فلماذا دائماً عندما يجتمع كل من ديفيد ولويز، يكون هناك تصوير من زوايا مرتفعة غير تقليدية، لماذا تتحرك الكاميرا بتلك الانسيابية من زاوية لأخرى حتى لو كسرت قاعدة الـ180 درجة؟! ولذلك عندما نكتشف قدرة أديل يكون التواء الحبكة (بلوت تويست) هنا منطقياً ومفهوماً لأنه قد تم التمهيد له جيداً، أما التجلي الأخير للإسقاط النجمي هو الخروج من الجسد، وقد استخدمت في الرواية والمسلسل لخلق أفضل مفاجآت العمل، وواحدة من أفضل المفاجآت الدرامية في السنوات الأخيرة.
وهو ما يجعلنا بطبيعة الحال نتحدث عن (الهوية الشخصية)، التي تعتبر ثيمة أساسية جداً داخل العمل، تشير (الهوية الشخصية) عادةً إلى الصفات التي يختارها الإنسان، لتعريف نفسه كشخص والتي تميزه عن الآخرين، المشكلة أن تلك الصفات مشروطة ومؤقتة ويمكن أن تتبدل من وقت لآخر، حسب عمر الشخص وحالته الاجتماعية والتعليمية والوظيفية والجغرافية... إلخ، فهل يمكن أن يكون ديفيد المراهق الذي يعمل في الزراعة في أحد قصور الريف الإنجليزي، هو نفسه ديفيد الطبيب النفسي البارع والذي يعيش في ضواحي لندن ومتزوج؟ ما الذي بقي من ديفيد الأول واحتفظ به ديفيد الثاني؟ كما لا يمكن لشخص آخر أن يتشارك نفس الصفات مع الشخص الأول ويصبحا إنساناً واحداً، سوف يظل كل منهما له شخصيته المختلفة، ولذلك تتبنى الروائية سارة بينبورو مبدأ أن الروح هي الممثلة والوعاء الحامل لكل الصفات الشخصية، ولذلك فإن الجسد المادي من وجهة نظرها لا يمثل أي شيء حقيقي من الهوية الشخصية للإنسان، تكون الروح هي السر دائماً.
يتميز سيناريو ستيف لا يتفوت بالإحكام، هناك انطباع في المشاهدة الأولى للعمل، أن الإيقاع أبطأ من اللازم، وأن هناك لحظات من الممكن اختصارها، ولكن في المشاهدة الثانية أو مع مراجعة المسلسل بعد معرفة النهاية والتواء الحبكة المفاجئ، يتضح أن كل مشهد كان يؤدي وظيفة درامية ضرورية، مثلاً ما أهمية أن تزور أديل مكتب زوجها ومنزل لويز؟ نكتشف أن تلك الزيارات كانت ضرورية، لأن الرؤية عن بعد تعتمد على الخيال وحده، وإنما على رؤية أماكن تمت زيارتها من قبل، ولذلك أيضاً لم يكن من الممكن للويز أن ترى مسكن جارتها، ما لم تكن تزوره باستمرار، وربما أيضاً لنفس السبب رفضت لويز زيارة منزل طليقها، لأنها لا تريد أن تعطي لنفسها خيار التلصص على حياته، فهي بالفعل تجاوزته وأصبحت تتمنى له السعادة في حياته.
من ناحية أخرى كان إخراج إريك ريختر ستراند شديد الحساسية والذكاء، ليس من السهل تقبل تحويل نوع العمل من الإثارة والتشويق لتضاف إليه عناصر الفانتازيا، دون إثارة استياء الجمهور، ولكن لغته البصرية الدقيقة، سمحت له بهذا التحول دون مشكلة في تقبل الأمر، خصوصاً أن المفاجأة الأخيرة، تم الإعداد لها جيداً جداً منذ الحلقة الأولى في المسلسل، ولم تظهر فجأة بشكل اعتباطي، تميز الأداء التمثيلي كذلك لكل من سيمونا براون وتوم بيتمان، فالأولى كانت لها عدة قرارات مفاجئة وتكاد تكون غير مقنعة، ولكنها مرت بسلام بفضل تشربها للشخصية، مما جعل تلك القرارات قابلة للتفهم، والثاني لم تكن مشكلته ظاهرة طوال الأحداث ومع ذلك جذب التعاطف والاهتمام، ولكن يظل الأداء الأصعب والأخطر هو أداء الممثلة إيف هيوسون، فهي تحمل ثنائية الضحية والجلاد في وقت واحد، كان من الممكن لأية مبالغات درامية أن تفسد الشخصية وتجعلها غير مقبولة، ولكن إيف أجادت الدور بتمكن يحسب لها حتى النهاية.