مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

جـدار

تململتْ، وهي تقلب في ألبوم صور جوالها الذي قارب شحنه على النفاد. توقفت عند صورة وحيدة جمعتهما معاً، وهما يستندان متلاصقين إلى أحد جدران القلعة التي يحتضنها البحر، في يوم مشمس انفلت من زمان شتاء منذر بالأنواء.
ظلا يرممان جدارهما.. يقيمانه، كلما اهتز بهما العالم، أو استشعرا خطراً محدقاً بهما في أي لحظة.. يدعمانه: تارةً كي يفصل بينهما، فترحل أو يرحل، ويغيِّبهما العناد.. وتارةً أخرى كي يلوذان به من الأنواء.. يعتصمان به من أهواء النفس وترددها فيما بين إقبال وإدبار، ليحتويهما دفء يتآلف مع ما يربطهما بعمق خفي برغم ما يحيط بهما من أشواك، وما تقابلهما في طريق سيرهما الطويل من عثرات، ونقاط يتوجب عليهما التوقف عندها، والعودة للنظر إلى الخلف.
عند السياج الحجري الفاصل ما بين البحر والبر، تراجعت خطواته، فيما كانت عيناه تداعبان تلك المساحة التي استلقى عليها ظلهما أمام الجدار، بينما كانت روحه تأتنس بطيف روحها الطيارة كساقيها اللتين تطلقهما للريح حال شعورها بمفارقة الأمان، لكن لم تنفصل الروح عن الجسد، فالروحان صارتا واحدة تتلبس جسدين يسعيان كلٌ في سبيل، على الرغم من الأرجوحة الطائشة التي تتلاعب بهما، تارةً ترفعهما في عنان السماء، وتارات تهوي بهما في قرار مظلم سحيق.
الظلال التي توالت على ذات المكان، لم تمح آثار وجودهما الفارق في لحظة من اللحظات المسروقة من قلب الوقت، واستراحتهما على أحجار السياج، وكأن الصاري الذي يمارس هو أيضاً لعبة التأرجح والتمايل مع الريح من حوله، تحمل رايته البالية نفس موجات مد الحنين الذي ما إنْ يغادر -ليستريح ولا يُريح- حتى يبطش بالمسافات، يعود بالحكاية كي تبدأ -مرة أخرى- في حياكة الثوب الذي كلما انفكت خيوطه أو كادت، عادت لتنسج من جديد في ضوء الشمس.
يعود صوت مغرد، ليخترق جدران المسافة، يمتزج بحفيف أمواج البحر التي تخلَّتْ عن نزقها، وهدأت وتيرتها، وعانقت السكون، وقاربت الهمس، وكأنَّ النورس الذي قطع المسافة من عمق المدى -مفارقاً سربه إلى قرب الشاطئ المتحصن بجداره الحجري العتيق- كي يقتنص صيده من تحت السطح الصافي الهادئ للبحر، قد ألف اللحن، ونسي فريسته المنتظرة تحت الماء، واستشعر الصوت -غير المعلن- المتمادي في شجن الحكاية: (صوتك أرق من النايات.. صوتك غُنا مالي السكات)، واخترق بوجوده الخاطف، مساحة الصورة الاستثنائية التي اتسعت لها زاوية التقاط كاميرا الجوال في يد العابر الذي تطوع لالتقاط صورة ثانية لهما -بعيداً عن الجدار- ولكنه لم يفلح، لنفاد الشحن، وهطول المطر بغزارة شديدة مباغتة.

ذو صلة