مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

جان ميشال جار.. فنان الصوت والضوء ورائد الموسيقى الإلكترونية

الموسيقى لغة العالم وعنوان الجمال وهي وسيلة الفنان للتعبير عن مشاعره وما يجول في داخله، فالرسام يعبر عما في داخله عن طريق اللوحة، أما الموسيقي فهو يعبر عن طريق الصوت واللحن والنغم الذي يسافر في كل أنحاء العالم ليصل إلى المستمع ويؤثر فيه عن طريق الكلمة والنغمة والإحساس الصادق.
والموسيقي إنسان مرهف الحس يلحق الموسيقى بإحساسه وشعوره فيجد فيها الملاذ من تعب الحياة ويجد فيها الهدوء والسكينة والمحبة والشعور الذي لا يخطئ كما يجد فيها متنفساً لهمومه وآلامه ومستقراً لأفراحه وآماله.
في عالم الموسيقى الحديثة، هناك أسماء تُخلد لأنها غيرت الطريقة التي نصل بها إلى الصوت والنغم ووصلت إلى الناس فأثرت فيهم وتركت الأثر العميق في النفوس لأنها أوصلت الرسالة بصدق وبكثير من المحبة والإنسانية. أحد هذه الأسماء هو (غالمي)، الاسم الذي يعرف به في العالم العربي الفنان الفرنسي جان ميشيل جار. وهو موسيقي مبتكر ومجدد في الموسيقى، لأنه لا يرضى بالتقليد، بل يسعى دوماً لاستكشاف آفاق جديدة في عالم الموسيقى المليء بالأسرار والجمال، مستعيناً بالتكنولوجيا، والرؤية الفنية العميقة، والخيال الحر الذي يحلق عالياً في عالم الفن فيغدو خيالاً مجنحاً يجوب الآفاق ويتجول بحرية في كل مكان ويكون سراً من أسرار الإبداع والسمو الفني.
ولد جان ميشيل جار عام 1948 في مدينة ليون الفرنسية، في بيت يتنفس الفن من كل زاوية كنسمات الهواء العليل ويعشق الفن بكل تفاصيله ويشجع الأبناء على الفن. والده كان ملحناً عالمياً لأفلام شهيرة، لكن انفصاله المبكر عن العائلة ترك فراغاً ملأه غالمي بالبحث عن صوته الخاص الذي لا يشبه أي صوت. منذ صغره بدأ يعزف على البيانو ويجرب في تشكيل الأصوات، لكن ما جذبه حقاً لم يكن الآلات التقليدية، بل الإمكانيات الجديدة التي وفرتها التكنولوجيا الصوتية في ذلك العصر، فقد أخذت التكنولوجيا تزحف إلى مفاصل الحياة حينها.
ما ميز غالمي عن غيره هو إيمانه بأن الموسيقى لا تحتاج إلى كلمات كي تعبر عن المشاعر أو الأفكار بل هي لغة تصل إلى شعور المتلقي مباشرة وتؤثر في روحه فتسمو بها إلى أعلى مراتب الجمال والروعة والسحر.
ألبومه (Oxygène) الذي صدر عام 1976 كان مثالاً على هذه الفكرة. بأدوات بسيطة وبدون أوركسترا، ابتكر تجربة صوتية نقلت المستمع إلى عوالم مختلفة: الفضاء، الحلم، الصمت، والضوء. لم يكن الألبوم مجرد تجربة موسيقية، بل كان إعلاناً عن ولادة نوع جديد من الفن.
نجح (Oxygène) بشكل غير متوقع، وانتقل غالمي من كونه فناناً تجريبياً إلى نجم عالمي. وقد استمر في هذا النهج عبر ألبومات أخرى مثل (Équinoxe)، و(Magnetic Fields)، حيث واصل تطوير لغته الموسيقية الخاصة.
ما يجعل غالمي حالة فنية استثنائية هو طريقته في تقديم عروضه. لم يكن يهتم فقط بالموسيقى، بل أراد أن تكون حفلاته تجربة حسية شاملة. استخدم الإضاءة، الليزر، المؤثرات البصرية، وحتى المباني التاريخية كشاشات عرض. في باريس، موسكو، بكين، القاهرة، والرياض، قدم حفلات حضرتها الملايين، وكسرت أرقاماً قياسية، وجعلت من كل عرض حدثاً لا يُنسى وهذا هو سر النجاح، أن يأسر الفنان القلوب ويصل إلى الناس عن طريق الحس المرهف والنغم المتفرد والصدق في العمل والتعامل.
إنه لا يقف على المسرح ليعزف فحسب، بل ليحكي قصة، وليدعو الجمهور للمشاركة في رحلة سمعية وبصرية تأسر العقل والروح معاً وتأخذ الأرواح إلى عالم من السكون والحب فتعدو الروح أسيرة إحساس لا يقاوم.
غالمي لا يرى التكنولوجيا كأداة مساعدة، بل كجزء أساسي من فنه. لطالما آمن بأن الآلات ليست باردة، بل يمكنها أن تنقل دفء الإحساس إذا ما وُظفت بروح إنسانية. جرب استخدام الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الواقع الافتراضي، وحتى الصوت المكاني ثلاثي الأبعاد، في سبيل تطوير موسيقاه. كان دائماً يسبق عصره بخطوة، بل أحياناً بخطوات.
رغم أن غالمي لم يكن يغني أو يكتب كلمات في معظم أعماله، إلا أن رسالته كانت واضحة: الموسيقى لغة عالمية قادرة على توحيد البشر. في كثير من مشاريعه، دعا إلى السلام، وحماية البيئة، وفتح الحوار بين الثقافات. حفلاته في أماكن مثل صحراء المغرب أو بين أهرامات مصر لم تكن صدفة، بل كانت دعوة صريحة لربط الماضي بالمستقبل، والتاريخ بالحداثة.
اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود في العمل الفني، لا يزال غالمي رمزاً للتجديد. ألهم أجيالاً من الموسيقيين والمنتجين حول العالم، وفتح الأبواب أمام أنواع موسيقية جديدة مثل الترانس، والتكنو، والهاوس. كثير من الفنانين المعاصرين يستشهدون به كمصدر إلهام، ويعتبرونه الأب الروحي للموسيقى الإلكترونية الحديثة.
رغم تطور الزمن وتغير الأذواق، لا تزال موسيقى غالمي قادرة على إثارة الدهشة. لأنها لا تعتمد على الصيحات العابرة، بل على رؤية فنية صادقة، تسعى لتوسيع مدارك المستمع وإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والصوت.
غالمي ليس موسيقياً فقط، بل هو فنان شامل، يجمع بين العلم والفن، بين التقنية والمشاعر. هو دليل حي على أن الإبداع لا يعرف حدوداً، وأن الموسيقى يمكن أن تكون جسراً يربط القلوب، حتى إن لم تُنطق بكلمة واحدة.
يبقى غالمي ذاك الفنان العالمي المشهور الذي لحقته الشهرة ولم يلحق بها ولم يلح عليها، بل كانت من صلب حياته، ووصل إلى العالمية عن طريق اجتهاده وسعيه الحثيث للارتقاء بالفن والموسيقى ليصل إلى كل القلوب بأسهل الطرق، ويصبح أيقونة خالدة من أيقونات الفن وزهرة من زهور بستانه الواسع وعلامة مميزة من علامات الفن المؤثر الذي يجوب كل بقاع العالم مستعيناً بصدقه وروعته وإمكانياته المتميزة.

ذو صلة