في قصة (بيت من لحم) للكاتب يوسف إدريس، والتي وسم بها عنوان مجموعته القصصية المعروفة، وظَّف الكاتب حرفيته الأدبية وسخريته اللاذعة لتقديم فلسفات عميقة عبر شخصية شيخ أعمى وبسيط يعيش مع مجموعة من النساء الوحيدات بعد فقدهن لعائلهن، وقدَّم في نصه القصصي مقاربة أدبيَّة جميلة، قوامها المعنى الدقيق للنُدرة في ظل الاحتياج والفقد من الجانب المقابل.
قدَّم إدريس بطل قصته رجلاً كفيفاً، لكنه شامخ ومطلوب في نفسه، أبرزه متلذذاً بفحولته، ومتجاوزاً الإحساس المتوقع بالنقص كونه فاقداً لحاسة البصر وتوَّجه ملكاً وسط مجموعة من النساء، ليجسِّد في نصِّه الفريد قيمة النُدرة النوعيَّة، وليربكنا بصنع حبكة قوامها الاحتياج والفقد والمعاناة.
وفي رواية (العمى) لجوزيه ساراماغو، أبهرنا الكاتب برؤيته الفلسفية العميقة حول معنى الوجود عبر دقة الوصف والعبارة والرؤية البصرية. وقدَّم لنا الصورة الحقيقية لرمزية ومعنى وقيمة الحياة في مواجهة الظلام والفقد والأزمات.
وفي رواية (العطر) لباتريك زوسكند، الرواية المشهورة والمتداولة بكثرة، اعتمد الكاتب في سرديته كلها على عالم الروائح والتجربة البشرية الحسيَّة وتوظيفه لحاسة الشم.
كل هذه الأعمال مجرد نماذج، وهناك أعمال أخرى غيرها، لا داعي لحصرها، عكست رؤى ورسائل وقِيم كبيرة، حول تجربة الإنسان، وبيَّنت قيمة الحواس في تاريخ الإبداع البشري والعالمي.
أعمال أدبيَّة عديدة اعتمدت الحواس الخمس كمصدر للإلهام من قبل الأدباء والكتاب، وأتاحت لهم خلق الصور الأدبية والحسِّية والشعرية، وساعدتهم في وصف المشاعر الإنسانية بطرق إبداعية مبتكرة ومتنوعة، ووجدت الذيوع والقراءة والانتشار، بل وحظيت بتقديرات فنيَّة، وحصلت على جوائز ذات أبعاد جماهيرية وفنيَّة، وكانت فرصة لاستخدام العقل في استكشاف أعماق النفس البشرية عبر الحواس الخمس.
فالحواس ليست فقط وسائل لاستقبال المعلومات من العالم الخارجي كالصور والمشاهد الطبيعية والضجيج والأصوات والروائح ومذاق الأطعمة، ولكنها وسائل فطرية وإبداعية وتمثل أدوات ذاكرة الإنسان للحظة والمكان. وهي وسائل لاستكشاف الذات والعالم وسبر أغوار وخبايا النفس البشرية. لأنها ترتبط بالحس والعقل، وتؤثر على طريقة تفكيرنا وتحليلنا وبناء تصوراتنا للواقع.
المبدع بشكل عام، والأديب بشكل خاص، يحتاج إلى جميع حواسه وهو قادر على استخدامها في عكس تجاربه وأفكاره ومشاعره ولوصف عوالمه، ومهمته نقلنا من حالة الاستكشاف إلى التذوق الحقيقي، وهذا لا يحدث إلا بالوصول إلى مرحلة الكمال الفنِّي والشعور بقيمة الرسالة والهدف من العمل الإبداعي.
هناك كتاب أجادوا تحسين اللغة والعبارات والوصف الشعري ونقل مشاعر أبطالهم وشخصياتهم إلى القُراء، وهناك من برع في الوصف الحسَّي عبر تقديم لمحات ومشاهد بصرية مُدهشة، وهناك من كان مذهلاً في توظيف الحواس عموماً سواء حاسة السمع أو اللمس أو الشم، بل وهناك ما يُعرف بأدبيات الرائحة وهي الكتابات التي احتفت بالروائح وبُنيت عليها.
بعض الكُتَّاب البارعين مثل مارسيل بروست وظَّف حاسة التذوق باللسان سردياً، وقدَّم أنموذجاً فنياً حديثاً سُمي لاحقاً باسمه. ففي روايته (البحث عن الزمن المفقود) قدَّم بروست تقنيَّة سردية جديدة عُرفت بـ(أثر بروست)، تمثلت التقنية في انفتاح السرد عبر التداعي الحر مع مشاهد تذوُّق البطل للأكل بمجرَّد إمساكه بالملعقة، فأصبحت الفكرة مرتبطة به منذ ذلك الوقت.
وفي السودان تبدو العلاقة بين الحواس والإبداع أكثر عمقاً وارتباطاً لدرجة أن سمى شاعر سوداني معروف وهو إسماعيل حسن ديوانه الشعري (ريحة التراب)، وهناك عبارات ذات دلالات معنوية وحسيَّة مفهومة لكل الناس والعامة بالسودان، مثل (ريحة البلد والدُعاش والأرض). وكثير من العطور السودانية ذات ارتباط معنوي ومكاني وزماني ودلالي، ولا يختلف على قيمتها الشعبيَّة والتاريخية الناس، فللمباهج عطورها وللأحزان والأتراح وكل المناسبات في المجتمعات السودانيَّة الروائح الخاصَّة بها. كما أن لكل مناسبة طقوساً وأشكالاً تتعلَّق بها وحدها.
ولنا طرفة شعبيَّة متداولة تحكي عن أثر الروائح وتسببها في الإدمان حتى على الحيوانات. تقول الحكاية الشعبيَّة -المتداولة شفاهياً- إن إحدى النساء السودانيات، المدمنات للقهوة، كانت معتادة على صنع قهوتها يومياً وهي جالسة بين أغنامها، وعندما غابت يوماً وتركت طقوس قلي (تحميص) وطحن البُن التي كانت تقوم بها، ويستمتع بها صغير إحدى أغنامها الذي يقبع بجانبها يوميّاً، لاحظ الجميع أثراً سلبيّاً على الصغير، وشعروا أنه قد أصيب بحالة من المرض والإرهاق، ولم ينفك على حالته تلك إلى أن رجعت صاحبته وقامت بمواصلة عملها في اليوم التالي، وانطلقت رائحة البُن في البيت فأحدثت أثرها في المكان ورجع الصغير إلى عافيته ونشاطه.
بقدر ما تكشف الطرفة أثر القهوة وخطورة إدمانها، إلا أن المعنى الأعمق يُستشف من قيمة الرائحة وارتباطها بالأشياء الحسيَّة والمعنوية، حتى على الحيوان، فما بالك بالإنسان.
والإذاعة ذاكرة الأمة كما يقولون. أما الأغاني الشعبيَّة والأهازيج فهي معزوفات تمثل التاريخ وعبقه الموثق فنياً وإبداعياً، وهي جداريات أثرية تحفظ للمكان إرثه وذاكرته ووجدانه. ولكل مجتمع خصوصيته التي يمكن استخلاصها من موسيقاه وتراثه الفني وألحانه العبقرية ودندنات مبدعيه الملموسة والمحسوسة بحاسة السمع.
فالأسواق الشعبية عنوان بارز ودقيق، وترانيم معروضاتها تقود الباحثين والمهتمين بدراسات المجتمعات في كل حقبة تاريخية، وهذا التراث السمعي سيكون المعين للأجيال اللاحقة.
وعلى مستوى التوظيف الإبداعي والسردي، كتب بعض الكتاب السودانيين سرديات عديدة، ووظفوا الحواس في إعمال روائية ناجحة ومميزة. ففي رواية (ذاكرة شرير) للكاتب السوداني منصور الصُوَيِّم احتفاء عظيم بالمهن الهامشية المرتبطة بالبسطاء ومجتمعاتهم، كما سمى الروائي عمر الصايم أحد أعماله الإبداعية (أزمنة الصرماتي). ومن العنوان يبدو واضحاً أن الكاتب احتفى بمهنة تعتمد كلياً على الحرفيَّة والفنيَّة وأساسها الفنِّي اللمس باليد، وقارئ الرواية سيجد المؤلف قد أعطى مهنة الإسكافي (الصرماتي) حقها كاملاً.
وربما كان هناك شيء من الاتفاق الضمني، وتقارب في الفهم العام، بأن حاسة الشم مرتبطة أكثر بالشعور الحسي والجسدي، وبالغرائز الشهوانية، بينما يميل الناس إلى ربط حاستي السمع والبصر بالعقل والعقلانية، وقد يكون مرد ذلك الأمر عائد إلى رؤية قديمة قدمها أفلاطون فقد سماهما بالحاستين الشريفتين، لكن الواقع يؤكد أن قيمة الحواس متقاربة، خصوصاً في أهميتها وأدوارها الفنِّية وعكسها للإبداع الإنساني.