ليست الحواس أدوات بيولوجية لفهم العالم فقط، فهي نوافذ مفتوحة على الذاكرة والثقافة والتاريخ. ومن بين هذه الحواس، يبرز الطعم واللمس بوصفهما وسيلتين حميمتين لنقل المعنى، وتوارث الهوية، واستمرار التراث. في المجتمعات العربية، لا يظهر المذاق واللمس كوظيفتين جسديتين فحسب، وإنما يمتدان ليحملان في طياتهما الحنين، والحكاية، والممارسة الجمعية.
في السياق العربي، لا يُعَدّ الطعام حاجةً فيزيولوجية مجرّدة. الأطباق الشعبية مثل الملوخية، الكُسْكُس، أو المجدّرة، تحمل في مذاقها ما هو أعمق من المكونات، إنها مشاهد يومية متكررة، وذكريات مرتبطة بأصوات العائلة، وروائح البيوت، ولحظات لمّ الشمل. ما يجعل هذه الأطباق متجذّرة في الذاكرة الجمعية هو أنها لا تُحضّر بطريقة مقنّنة أو موثّقة، بل تنتقل وصفاتها شفهياً، من يد إلى يد، ومن عين تراقب إلى يد تُجرّب.
جدتي، مثل كثير من نساء جيلها، كانت تصنع الجميد من اللبن الطازج، تجففه تحت الشمس، وتضيف إليه أعشاب البرّ، فيتشكّل طعم لا يشبه أي نكهة حديثة. كانت تلك العملية طقساً منزلياً، تجمع بين الحقل والمطبخ، بين الحكمة القديمة والمهارة اليدوية. أما السمنة البلدية التي كانت تُحضّرها من زبدة الأغنام، فكانت ثمرة صبر وخبرة موسمية، تُخزَّن في أوعية فخارية، وكأنها كنوز منزلية لا تقدّر بثمن.
ذات مرة، قالت لي أمي إنهم، حين كانوا صغاراً، كانوا يصنعون (الشِّدّة)، وهي طبخة تراثية بسيطة وغنية، تُحضّر من القمح وزيت الزيتون والدبس. كانت تُطهى على نار هادئة حتى تتماسك، ثم توضع في قربة من جلد الماعز، حيث تكتسب نكهة مميزة ورائحة لا تُنسى. كانت تجربة شعورية في هيئة وجبة، تلتف حولها العائلة، وتتكرّر في كل موسم.
حين يتذوق الأبناء أو الأحفاد طعاماً صُنع بالطريقة ذاتها التي اعتادت الجدات تحضيرها، فإنهم لا يستهلكون وجبة، بل يستعيدون زمناً مفقوداً، ويستحضرون ملامح ووجوهاً رحلت، لكنها ما زالت تسكن في النكهة. يصبح الطعم هنا جسراً يربط بين الماضي والحاضر، ويحمي الذاكرة من التآكل تحت ضغوط العولمة الغذائية، التي تميل إلى توحيد الأذواق وإلغاء الخصوصيات.
كما يحمل المذاق شحنة وجدانية، يُجسّد اللمس ذاكرة أخرى لا تقل أهمية، ذاكرة تسكن في أطراف الأصابع. الحِرَف اليدوية مثل النسيج والفخار والعمارة التقليدية ليست مجرد تقنيات، بل أنسجة حية من المهارة والبصيرة والتجربة المتراكمة. هذه المهارات تنتقل عبر المراقبة والتجريب، حيث تكتسب اليد ما لا يمكن أن تنقله الكتب.
في صناعة النسيج، كانت كل قطعة قماش تُنسَج وفق أنماط محددة تُعبّر عن رموز جغرافية أو اجتماعية، وتحمل في زخرفتها قصة ما. لم يكن الغزل مجرد حرفة، بل وسيلة للتعبير عن الهوية الجمعية، وعن علاقة الناس بالمكان واللون والرمز. أما الفخار، فكان وجه الطين الذي يُشكّله الإنسان، يضع فيه لمساته، ويترك أثره، وكأن كل قطعة تحمل توقيعاً حسياً غير مرئي. لا يمكن لآلة أن تُنتج تلك الفروق الدقيقة التي يتركها الصانع على سطح الوعاء، أو على حواف الكوب.
العمارة التقليدية أيضاً كانت مشبعة باللمسة البشرية. من البيوت الطينية في الجنوب، إلى القصور الدمشقية، كانت التفاصيل المعمارية تتيح التفاعل الحسي المباشر: نوافذ تُفتح وتُغلق يدوياً، جدران محفورة بأدوات بسيطة، وأحجار مرصوفة بعناية. العمارة لم تكن قالباً جامداً، بل كائناً نابضاً بالتجربة اليومية والذاكرة الجماعية.
في عصر تُهيمن عليه السرعة، والإنتاج الصناعي، والتقنيات الافتراضية، تكتسب الحواس، لاسيما الطعم واللمس، أهمية مضاعفة. العودة إلى الأطعمة التقليدية أو الحِرَف اليدوية لا تعبّر فقط عن حنين إلى زمن مضى، بل تمثّل فعلاً من أفعال المقاومة الثقافية الصامتة. مقاومة تحافظ على الفروق الدقيقة، وتعيد الاعتبار للتفاصيل، وتمنح للتجربة البشرية مساحة تنمو فيها بعفوية وبطء.
حين تُصرّ المجتمعات على إعداد طعامها التقليدي، ودعم صناعاتها اليدوية، فإنها لا تصون تراثها فحسب، بل تخلق بدائل تنموية واقتصادية تتكئ على الذاكرة كقيمة مضافة. هذا التراث لا يجب أن يُحفظ في المتاحف وحدها، بل في الأيدي التي لا تزال تطهو وتنسج وتشكّل وتبني.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى الطعم واللمس كمجرد إحساسين عابرين، فهما جزء من بنية الهوية، ووسيلتان للتواصل العميق مع الزمن والذات والآخر. المذاق يعيدنا إلى بداياتنا، إلى أماكن نشأت فيها الحكايات، وأصوات كانت تملأ المطبخ، وأعياد كانت تبدأ من طبق. أما اللمس، فيعيد إلينا صلة الجسد بالعالم، بالحرفة، بالمادة.
إدراك قيمة الحواس بوصفها أدوات للمعرفة الثقافية يعيد تشكيل وعينا بذاتنا وبعلاقتنا بما ننتجه ونستهلكه. وكما تُقرأ النصوص، يمكن تذوق الطعام كوثيقة شفهية، ويمكن ملامسة الحِرَف كأرشيف ملموس.
في كل طعم مألوف، وكل سطح أملس أو خشن، هناك حكاية تنتظر أن تُروى من جديد.