يتبدى الحب في خطاب الفقيه بلفظ خفي مشبع بالدلالة، ويكمن العشق الرصين في طبقات المعنى عند الحنابلة، تقوده يد العصمة، يحمي أمن باطنه عزم ظاهره. ولما نظرت في المنهج، وجدت الرأي أنصف العاطفة، وجنب زمامها الهوى، بلفظ شريف وعقل مصون وحجج بليغة، ونظر ثاقب. وفي نظرنا للفقه بوصفه مدونة للغة الحب تواجهنا مقالة الفقيه في مراعاة المشاعر الزوجية، واستصحاب الألفة والميل، فباب المعاشرة بالمعروف محمل بالوصايا العاطفية.
يجيء الفقه الحنبلي بخطاب دقيق المسلك في كثير من مواضعه، يراعي دروب النفس، يقر الميل، ويستأنس بالانجذاب الذي يحل كمقدمة مشروعة لميثاق معلن. وفي نظر الحنابلة للخطبة والتودد والنظر والنية في حدود الشرع يقول ابن قدامة في المغني: «وله أن يردد النظر إليها ويتأمل محاسنها، لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك». ويضيف البهوتي في كشاف القناع: «لأن ذلك أدعى للائتلاف، وأبعد من الندم». وفي هذه التعليلات اليسيرة في ظاهرها العميقة في باطنها في الفقه الحنبلي الذي يراعي المشاعر أكثر مما يظن، لكنه لا يفصح عنها إلا بلغة الشرع؛ مساحة للتأمل الجمالي العفيف، تحمل إقراراً ضمنياً بالتقدير للشعور العميق قبل الميثاق الغليظ، عقد يتلمس الأنس قبل الإلزام. وهذه النظرة للمخطوبة في الفقه الحنبلي ليست مرفوضة على إطلاقها؛ فإن قادت إلى نكاح فطابت وطاب صاحبها، وإن جرت إلى تعلق مجرد من التقوى، فهو الذم والترك. وهذا النظر لما وقع عليه اختيار الفقهاء لم يبعدوه عن العاطفة، بل جعلوا الألفة سبيل الأنس. وهذه مفردات في كتاب القلب لا مفردات القانون، فلبس الهوى لباس التقوى، واستقر في قلب عفيف، متوجه إلى باب يفتتح باسم الله الودود.
وإذا ما طوق الميل بعقد فيه باب من الرحمة يفتح، ومعروف تسكنه المحبة؛ تحل العشرة في أبواب الفقه الحنبلي على بساط من مودة هي العهد للميل المشروع، وتتنزل المودة منزلة الميثاق لا المساومة، يقول ابن قدامة: «ويستحب أن يتجمل لها كما تتجمل له، ويؤنسها ويزيل الوحشة عن قلبها»، والفقيه هنا يجعل التجمل عبادة صامتة، فتنبت أقسام الحب والرحمة والميل في أبواب النكاح، وتجيء النفقة من باب المحبة لا الجزاء، لتخبر أن الزواج ليس عقد تملك بل ميثاق مودة، وهذه ثمار بذور الألفة زرعت في كتب فقه الحنابلة، يقول الرحيباني في مطالب أولي النهى: «ويعاملها بالمعروف، وهو ما جرت به العادة من المحبة والملاطفة»، فكتب المعروفُ لغةً للحب اليومي. وفي مراجعتي لعبارات الفقهاء في كتب الطهارة والحيض والطلاق لكأن بعض الكلمات صالحة أن توضع في بيت شعري، مما دل أن الحب عندهم ليس بالأطراف، بل في صلب العلاقة، في لب الفقه. وحسن العشرة ليس وعداً قابلاً للتحقيق، بل فعل يومي يسكن في طيه المعروف والإحسان. وإن كان الفقهاء يسوقون الأحكام بظاهر الفرض والندب؛ فإنهم يجعلون باطنها الحنو المقصود، والتقدير المشروع للنفس البشرية حين تطلب الأمن مع وجه مألوف ومجلس لا يتكلف المرء فيه الدفاع عن قلبه.
الحب في تصور الفقيه الحنبلي ليس عيباً يستوجب الستر، ولا سهواً يتخفف منه المرء؛ بل هو من أقرب وراد القلوب، لا يدفع، بل يجلل برداء التهذيب. والحب هو هو عند الفقهاء كما هو عند العشاق، وفي كتب الحنابلة إشارات محبة عميقة يتلبسها الوقار لا الهوى. ولقد تكلم ابن قدامة في المغني عن الوجد والهوى بأنه أمر فطري لا يؤاخذ بجريرته المرء، ما لم يخالطه أمر محرم. ولقد كان الإمام أحمد نفسه يقول إن كان الحب من قبل القلب فلا يضر، ما لم يجر حراماً. وهم بذا يفرقون بين الهوى المذموم والحنين الكريم، ويرون الحب ابتلاء ممجداً، ويعلون لغة العفة لا الجفاء. وكلنا مر به الفقيه العاشق، وليس غريباً على تراثنا، ولكنه مقيد بالمحبة الخفيضة، والحب ليس حكراً على الشعراء، بل مدار واسع للفقهاء، ولكنه جاء معهم بلغة الحياء والتقوى والعفة. والحب في نظر الحنابلة لا يذم إلا إن قاد لحرام، بقولهم: «الوجد لا يذم إلا إن أدى لمعصية». وهنا يحق لنا أن نستدعي قول ابن قدامة: «القلوب لا سلطان لأحد عليها». ولم يقصِ الحنابلةُ الحبَ بل هذبوه وأركبوه في أحكام تراعي القلب والحياء، حب مروض بالعفة. وكتمان الوجد فضيلة معتبرة في أقوال أحمد ومن جاء بعده، وهذه التفرقة ليست تضاداً في الاصطلاح، بل موقف متزن، يقر للإنسان أن يحب ويعشق، ولكنه يربط الشعور بما يزكيه. فهم قضاة لا يخاصمون القلب، بل يداوونه بالحذر والتقوى، إذ رووا الوجد بماء الحياء.
أرى أن جملة الفقيه: «ويستحب أن يؤنسها ويعاملها بالمعروف»؛ هي ذاتها قول العاشق: أحبها. فجملُ الفقهاء على نسق آخر، جملٌ تفعل الحب قبل أن تقوله، لغة لا تفرط في التصريح، فلباس الشعار منها الحياء لا الهيام المشهور. وهذه القواعد الفقهية في حسن معاشرة الزوجة، وإن ظهر أن قائدها هو العقل؛ فلعمري إن في ثناياها قلباً لا يخفى نبضه على عاقل، ويصحب المنطق والعقل والإصلاح حياء وحشمة وتجمل، وقول مجرب بالفعل، حب غمره الأنس، وأخفي في الضمائر بالمعروف، يظهر في مواضع السكوت، ويخبر عنه أطراف العبارة، لا ينسج قصيدة بل يرشد الشاهد للستر، ويربطه بميثاق غليظ لا بمجازات عابرة، وهذا هو الحب كما تهجاه الفقيه الحنبلي، حب لا يعلو صوته إلا في ظلال الورع، محتجب بالحياء ومقرون بالإيمان، يمتدح رحمة العشرة أشد من العشق المتفلت في ميدان الوجد والغزل والشعر. وفي زوايا كتب الفقه، حيث تكتسي المصطلحات الرداء العصيب، والحد المنضبط؛ تطل ومضات خافتة، تراها أعين ذاقت الوجدان، لغتهم في باب العشرة زاوجت بين همس العشاق، وحسم المفتين، جاؤوا بالحب وأنبتوا عليه عشباً من نية صالحة، وأمطروا عليه حياء محبباً من الله.
ولقد كانت سيرة الإمام أحمد في اللطف مع المرأة تصل مقاماً محموداً، يضرب له بسهم في الكمال، يخبر عن خلقه الكريم وحيائه الرفيع، وإيمانه الذي يعظم المعروف ويحترم الخاطر. قالت له امرأته حُسْن، وهي أم أولاده الحسن والحسين ومحمد وسعيد، وهي ممن روت عنه من النساء، قالت له يوماً: يا مولاي، أصرف فرْد خلخالي؟ فقال بقلب اللطيف العارف: وتطيب نفسك؟ قالت: نعم، فرد رحمه الله في طمأنينة الرجل الصالح المقر بنعمة الزوجة الطيبة: الحمد لله الذي وفقك لهذا، لطف فوقه لطف، لطف التألف لخاطرها ولطف في حمد الله على نعمة الزوجة كريمة النفس المقبلة على البذل. لم يعامل المرأة بالفتوى، بل بالرقة التي يسمح بها الحكم. هذا الموقف في كلماته المعدودة، يكفي ليفتح لنا باباً على فقه الحب في الإسلام، يسابقه الحياء، ويكلل بالشكر، تحل فيه المرأة مكاناً مكيناً، لا بكونها تابعة، بل رفيقة مكرمة، يُتلَطفُ بها حتى في فرد خلخال، وكان هذا الموقف يكتب لنا فقهاً من نور، في خلق السؤال قبل الإذن، والحياء الفقهي في البيت، يقول فقيه الحنابلة البهوتي في كشف القناع: «يلزم الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة». وفي كل مرة أقرأ هذا الوصف تبتهج نفسي، وتمد روحي ظلاً وارفاً من السكينة، تحل هنا الصحبة الجميلة إيماناً متجلياً مستوطناً للبيت المسلم، الصحبة الجميلة لا تختصر في نفقة، ولا تختزل في سكن، بل تترقى في لطف قول وستر خلاف، وهي هنا صحبة جميلة: لب المعروف وجمال الميثاق.