مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

الجمال بلسان الروح الرمزية في الثقافة الإسلامية

في العالم الإسلامي، لم تكن الحياة يوماً محض وظائف وأشكال، بل كانت دوماً نسيجاً غنياً من الرموز، تشعّ بالدلالات وتشير إلى ما هو أسمى من الظاهر. الإسلام، منذ بواكيره، لم يكن مجرد مظهر، بل رؤية جمالية وروحية للعالم، تحوّل الرقم إلى فكرة، واللون إلى معنى، والزهرة إلى حكمة، والرائحة إلى ترنيمة، بل والصوت إلى نور، والضوء إلى عاطفة.
فالكعبة، على سبيل المثال، ليست بناءً مكعباً فحسب، بل هي مركز الوجود، تلهج بروح الطواف، وتُعلّم الجسد كيف يدور كما تدور الأفلاك في الأكوان. كسوتها السوداء المنقوشة بالذهب تجسّد جلال الاحتشام وعظمة السكينة، رمز الوحدة في زمن التشظّي. يطوف حولها المؤمن كما تطوف الروح حول حبّ الله.
والقباب الإسلامية، سواء في بغداد أو إسطنبول أو فاس، لا ترتفع عبثاً، بل تستعير هيئة السماء، طقس تأمليّ لا ينتهي. القبة البصلية في العمارة الفارسية ترمز للارتقاء، وكأنها لهب صاعد من القلب لحظوة العرش، بينما النصف كروية في العمارة العثمانية تشير إلى التوازن بين الأرض والسماء. وفي غرناطة أو قرطبة، تتحول القباب والزخارف إلى سيمفونية نباتية منمقة، كما لو كان الكون يسبّح على جدران الحجر. والقبة الخضراء في المدينة زمردة القباب.
أما المآذن، فهي أصابع النور، تنهض من الأرض لتشير إلى السماء تسبيحاً، من سامراء حيث المئذنة الحلزونية تعرج بالروح، إلى شرفات مآذن القاهرة، وفي إسطنبول مبرية كالأقلام، وصوت المؤذن لم يكن نداء صلاة فقط، بل تذكير دائم أن الزمن الحقيقي يبدأ بذكر الله.
والأعداد لها شاعريتها، الواحد توحيد، الثلاثة تراتبية الإسلام والإيمان والإحسان، الخمسة أركان الدين وأصابع اليد التي تسبّح والصلوات، السبعة كمال روحي (السماوات، الطواف، السعي)، الأربعون مرحلة عبور (خلوة موسى، سنّ النبوة).
أما الألوان، فلكل منها رسالة الأخضر الجنة وظلّ النبوة، الأبيض للنقاء والبعث والعودة إلى الأصل والإحرام والكفن، الأسود كسوة الكعبة والمسك، الأزرق السماء والأبدية.
وأعلام الدول العربية ترميزاً مركباً من الشعر والتاريخ والدين. الألوان الأربعة - الأخضر، الأبيض، الأسود، والأحمر - مستمدة من بيت الشعر الشهير لصفي الدين الحلي، حيث كل لون يُنسب إلى دولة أو عقيدة: الأبيض للأمويين، الأسود للعباسيين، الأحمر للهاشميين، والأخضر للفاطميين، ويظهر هذا الترميز جلياً في أعلام مثل العراق، فلسطين، السودان، وسوريا، حيث تُخاطب الرايات ذاكرة الأمة قبل أن تمثل جغرافيتها. أما الهلال فهو إشارة للتقويم الهجري، والنجمة تلألأ الإسلام في ليل العالم.
حتى الحيوانات في المخيال الإسلامي ليست بلا معنى؛ فالطاووس رمز الجمال السماوي عند المتصوفة، والأسد رمز الشجاعة والبطولة، الحمامة للسلام، كما كانت رفيقة النبي في الغار، النحلة للوحي والتنظيم والدقة، النملة للتعاون والحكمة، والعنكبوت للحماية الإلهية، الجمل للصبر وقوة الاحتمال، والخيل رمز العزة والمهابة ونواصي الخير، والكلب رمز الوفاء، والغراب رمز الاعتبار، والهدهد للحكمة والبشارة.
أما النباتات والروائح، فهي رسل خفية من العالم الآخر، الريحان رمز السكينة، ورد في القرآن كعطر الجنة.
المسك ختام الرضا، والعود عبير المهابة، والعنبر رائحة السكينة الباطنية.
البخور نفس الدعاء، والنعناع عبق البيوت، والورد هو الحبيب. جميل، لكنه لا يُمسّ دون ألم.
والقهوة العربية بشاشة الروح، تبدأ معها المحبة وينتهي بها الخصام.
الرمان رمز الخصوبة ووحدة التكوين مُلقح من الجنة، التمر غذاء النبوة، طهارة الإفطار وبركة الأرض، التين والزيتون رمزان للقداسة وجغرافيا الروح، العنب وعد بالنعيم، والتفاح رمز للجمال الخفي والحكمة المذابة في المتعة.
والزخرفة الإسلامية ليست فقط زينة، فالأرابيسك نبات يسبح في الملكوت، كلما تكررت الزخارف تلاشت الأنا، الدائرة حوض الكوثر، والمربع الثبات والارتباط بالأرض، والنجمة المثمنة ترمز لعرش الرحمن.
والخطوط أنفاس للقلم، من زوايا الكوفي المهيب إلى انسياب الثلث الساحر، إلى رشاقة النسخ، وبساطة الرقعة، وشاعرية الفارسي، وجلال الديواني. تحمل في طياتها تاريخ أمة.
في الثقافة الإسلامية، لا شيء صامت.
كل تفصيل له حكاية، كل شكل يُسمع، كل عطر يُلمّح، كل ذكرى حلم.
هي حضارة تقول للعالم:
الجمال حين يُنقش بالإيمان، يصبح لغة لا تزول.

ذو صلة