كانت صالحة تخبئ حلمها تحت وسادتها البالية، قطعة خشب تدسها وهي تحلم بذلك اليوم الذي تحملها محتضنة إياها نحو بيت المطوعة مثل رفيقتها جواهر، ابنة الخياط التي كانت تشاركها لعبة الغميمة، لكنها انقطعت عن المجيء بعد أن التحقت مع صغيرات القرية اللواتي التحقن بصفوف العلم، أما هي فوالدها صالح يرفض أن تخرج لما لا نفعة فيه، وأن مكانها هو البيت ولن تستفيد من (ألف باء)، حين تُزف إلى بيت زوجها لتطبخ وترعى ولتربية أبنائها. لكن قلبها الصغير لم يمل، فتدس سبورتها الجديدة حتى لا يُلحقها سابقتها حين تغافلته في أحد أيام غيابه وذهبت لبيت المطوعة فكسر اللوح وشدها من جديلتها اليمنى وهوى عليها بيده الأخرى التي تحمل عِقاله (قلت لك ما عندنا بنات تتعلم، تبغين تفضحينا! ليتك متي مع أمك وارتحت منك، أخذتي منها وجهها لكن منتي مثلها كانت مرضية زوجها). لم تنس صالحة تلك الكلمات، وهي تتأمل وجهها وعينيها الرماديتين الجميلتين، فهي لا تريد أن تكون جميلة ولا مطيعة، تريد أن تنادي (ألف، باء، تاء، ثاء..).
حتى محاولات عمتها لم تفلح في أن يحيد عن رأيه ولم تجدِ جهود خالتها في انتزاعها منه، لتغيير مصير هذه الطفلة اليتيمة، بل كان يطردها في كل مرة تُحاول أن تزور فيها ابنة أختها التي أوصتها عليها. كلما أشرق فجر جديد صعدت السطح لتكون في الصف الأخير من طالبات المطوعة، ولا تغادر مكانها حتى تراهم يُهرولون لمنازلهم بعد انتهاء درسهم، لا يُهمها كم المرات التي سقطت مغشياً عليها بعد ذلك على أُثر ضربات الشمس التي هوت عليها مراراً وتكراراً. تحلم بهذا اليوم كل ليلة، ولا تمل من عيش ذات السيناريو في ظل غياب أبيها الذي لا يعود إلا لينام تاركاً إياها مع وحدتها الطويلة.
في أحد الأيام التي كانت تتهجأ فيها كلمة جديدة استرقتها من علوّها، رأت والدها بين أيدي أربعة رجال يُهرعون به نحو البيت، فأسرعت في النزول، لتفتح الباب لمحت وجه أبيها المتعرق ويديه ترتعشان وهو ملقى على الأرض، وأحدهم يلقنه الشهادة، حاول جاهداً نطقها حتى اختفى صوته، لتتعالى بعدها الأصوات بالحوقلة والتهليل. أدركت بعد أيام بوعي طفلة لم ينضج أن والدها ذهب لمكان أمها، وأرعبها ذلك كثيراً خشية أن يضربها ليعاقبها على عناد طفلتها. وبعد أن انتهت أيام العزاء الثلاثة والتي رافقتها فيها خالتها وهي تحتضنها وتُكيل لوالدها اللعنات وتدعو أن تُخلد روحه في جهنم. شعرت بالراحة في حنانها -الذي ذكرها بوالدتها- وانتهاء نوبات الضرب المتكررة، ونسيت في ظل ذلك كله لوحها المخبأ تحت وسادتها، وفور تذكرها هرعت لتُريه خالتها، التي رأفت لحالها وهي تُمسد شعرها وتعدها بأن تلحقها مع رفيقتها جواهر بدروس المطوعة فور أن تأخذها للعيش معها، لم تصدق، فقفزت من مكانها، وهي تصرخ بأن تحلف بالله على صدق وعدها، ولم تهدأ حتى تسرب النوم إلى عينيها، ونامت وهي تحتضن لوحها وتحلم بصوتها ينطلق من الصف الأول من داخل الغرفة التي راقبت بابها طويلاً.
وحين جاء الصباح الموعود، وبعد أن قامت خالتها بمشط جديلتيها، سمعتا صوت الباب وهو يُطرق وصوت رجل يتعالى بالنداء ويسأل عن (صالحة) وهو يلوح بورقة عليها أثر إبهام في أسفلها: (أنا مدين أبوها وهو بصم على ورقة الدين لو ما سددني يزوجني صالحة.. هاتوا حرمتي).