مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

العقل والزخم المعرفي (3)

لقد مَرّت (بالعقل) وعبر العصور أمور معرفية كثيرة تمثل زخماً معرفياً ضخماً، ومع ذلك لم تسبب له تشويشاً مثلما هو في هذا العصر مع وسائل التواصل الحديثة، على أن هذه المرحلة الأخيرة قد سبقتها أمور سببت له قلقاً، ولكنها أشعلته ولم تشغله، فقد جعلت التفكير أمامه منطلقاً من خلال تقارب مدارس الأدب، وتعدد أدوات النقد، بحيث لم يعد متوقفاً عند تحليل وتفسير وتقييم الأعمال الفكرية وفاقاً لمناهج محدّدة، فقد ظهرت أنواع جديدة من النقد المتخصص، مثل: (النقد التاريخي)، والنفسي، والاجتماعي، والبنيوي، ونقد الأسلوب، والنقد التفكيكي، والتأويلي، والنسوي، والجمالي، والواقعي، والرمزي، والأيدلوجي، والثقافي، والإنساني، ونقد التلقي، والاستجابة، والمقارن، والبيئي، والأسطوري، والأخلاقي، والسيميائي، والظاهراتي، ونقد ما بعد الحداثة، والنقد الفوضوي، والإلكتروني، والتأريخي الجديد، والتداولي، إلخ ذلك. من الأنواع التي نقلتها العقلية المتأثرة بالغرب والشرق، ومع تعدد أنواع النقد فقد تعددت أنواع الناقد تبعاً لهذا التعدد، ناهيك عن تعدد المصطلحات التي ظهرت لقراءة النص، من مثل: الانتشار، وتشظي النص، والمراوغة، واللعب الحر، ولا نهائية الدلالة، وتناسل العبارة، والنزيف الدلالي، والتفجير الدائم للمعنى، والانزلاق الدلالي، والانزياح.. إلخ ذلك، (أما النص)، فهناك النص الظاهر، والخفي، والمغلق، والمفتوح، والمنفتح، والمتجدد، والمؤثر، والتراثي، والجامع.. إلخ ذلك.
(وفي الشعر)، ظهر الشعر الحر، والحداثي، والعمودي. (وفي الرواية) ظهرت الرواية السفسطائية، والباروكية، والرعوية، والغزلة، ورواية الاختبار، والرسالة، والانشطارية، ورواية التكوين العام.. إلخ ذلك.
إن هذا في الواقع ومع هذه المصطلحات نجدها قد لعبت على الذاكرة من خلال هذا الانفلات المصطلحي، فهي والحالة هذه قد سبقت عصر الخدعة والتشويه هذا الذي نعيشه الآن، ومع ذلك كله نجد العقلية قد حاولت التعامل معها، حيث أكبت على الدرس من جديد ولكن في عمر متأخر، مع ظهور طفرة جديدة ظهرت مع وسائل التواصل الحديثة، وتغلّبها على الواقع البشري مما أصاب هذا العقل بالتشويش وقد تتسبب في النسيان، فتخمل الذاكرة، وتقل المتابعة لكثرة الزبد، وسطحية المُعطى.
إننا إن أتينا للواقع الذي يعيشه العقل المثقف في عصرنا هذا نجده يعيش مع موضوعات لا تقدم الواقع قدر ما تقدم صورة عنه، وهي صورة يراها القارئ كما يرى الراكب في عربة القطار ما حوله، إذ يرى ما يمر به وهو ينظر من خلف الزجاجة وكأنه يرى شريطاً يمر أمامه بسرعة، فلا يميز الصورة إلا من حيث هي: صورة لشجرة أو حجرة أو إنسان، ولكن دون تمييز.
إن واقع الحال المعيش قد يسبب للذاكرة مشاكل عديدة أهمها الخمول، وعدم التعامل الجدي، لأنها لا تجد شيئاً تقرأه وتتحكم فيه، قدر ما ترى شيئاً مختلفاً، لا يُعرف قائله، ولا مصدره، ولا مؤثراته ولا تأثيراته، ولهذا فالمعلومات غير مستقرة:
إنه زمان غير مستقر،
المعلومات فيه متناثرة تناثر ذرات التراب
مسكين أيها العقل،
فالعصر عصر الآلة الجامدة، لا عصرك المزدهر.

ذو صلة