مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

رجل هلامي

يدخلُ إلى غرفته التي تقع في حيّ شعبيّ قديمٍ، في قرية قريبة جداً من مدينته التي يسكن فيها، هي غرفة أشبه ما تكون بعلبة كرتون صغيرة، تُذكّرُ من يراها بعلبة الكبريت التي تحمل في جعبتها أطفالها الذين يحترقون من أجل الناس، ثم بعد أن ينتهي الإنسان منها يحرقها بنار أطفالها التي أشعلها. هذه الغرفة هي ملاذه الأخير من ضغوطات الحياة، التي تجعله حريصاً على دوامه ومتلاعباً فيه في وقت واحد، حذراً على أبنائه متفرداً بهم عازلاً لهم عن أقرانهم، فهم يعيشون حياتهم بشخصيته لا بتحدياتهم وظروفهم، محبّاً لزوجته وخائفاً منها، ولذا يلهج لسانه بالدعاء عليها دائماً، وباحثاً عن عالمه الخاص بعيداً عن عينيها. تبدو حياته أشبه بلغز لا يمكن لأحدٍ أن يجدَ له جواباً سهلاً، ولذا كانت هذه الغرفة هروباً من هذا الواقع الغريب.
قبل دخوله يركن سيارته في مكان بعيدٍ، يحاول أن يخفي آثار سيارته عن أعين الناظرين، يخطو مسرعاً مُتلثماً كأنّه يرقبُ موعداً غير شرعيّ، حين يقتربُ من باب غرفته يلقي نظرة أخيرةً متلفتاً متسائلاً في نفسه: هل رآه أحد؟ يدخل مفتاحه بهدوء تام، ويديره بهدوء تام أيضاً، ثم يدلف إلى غرفته، مغلقاً الباب وراءه بتؤدة عالية الجودة، يأخذُ في خلع ملابسه كي لا تعلق بها رائحة الدخان؛ خشية أن تشم زوجته شيئاً من ذلك، فهو يرسم صورة مثالية في خيالها عنه وعن رجولته وأصدقائه منتسباً أحياناً إلى قبيلته التي لا يحمل اسمها، وحيناً مُلتفاً بخطاب ديني سمعه ذات لحظة إيمان، يوظفه كيفما يشاء. بعد أن يخلع ملابسه يدلف إلى المطبخ حيث يضع (بكت سجائره) في كيس أسود داخل (الثلاجة) باعتقاده أنّ هذا يساعد على محافظة الدخان على رطوبته، يأخذه ويسير الهُوينى نحو كرسيّ وضعه قريباً من باب الحمام كي تنفذ رائحة الدخان من خلال مروحة سحب الهواء بعيداً عن ملابسه.
قبل جلوسه يبدو شكله غريباً، فهو يكتفي بــ(فنيلة) بيضاء ذات أكمام قصيرة، وسروال أبيض يقف تحت الركبة، تبدو ملامح جسمه غريبة، بينما يبدو وجهه دائريّاً قمريّاً تظهر عيناه كأنّها مسحوبة إلى الداخل غائرةً مع صِغَرٍ واضحٍ، ويبدو أنفه طويلاً غير مستقيم، أما رقبته فهي ملتفةٌ كأنّها عامود إنارة دائريّ، يتدلّى صدرُه ولكنّه غير مصاب بداء التثدي عند الرجال، بحيث يمكنُ أنْ تلمح كيساً متكئاً على أضلاع صدره يحمل قليلاً من التراب، حين يستقرُّ نظرُك على بطنه تجده مُتسعاً ينزل إلى عورته التي لا تُرى، تتخيّل كيف يبحث عنها حين يريد أن يقضي حاجته! بينما يلتصق فخذاه ويتقاربان تكون ساقاه نحيفتين ضامرتين، وقد تصاب بالذهول متسائلاً: كيف يمكن أن تحمله هاتان الساقان؟ أمّا رجلاه فهما صغيرتان طبقاً لساقَيْه النحيلتينِ، وربما يمكن هو المكان الوحيد في جسمه الذي تشعر فيه بانسجام. حين تقلبُ الصفحة الأخرى من جسمه تدهش متعجباً، فرأسه الذي أحسنت أمّه عليه فيه حين كان طفلاً فوضعته بشكل صحيح مستقيماً لا يميل رأسه أثناء النوم مدة جلوسه على الأرض قبل أن يتجاوز مرحلة المهد، فظهر رأسُه مستويّاً من الخلف وهذا جعل وجهه دائرياً، يستقيم ظهره مع رأسه فلا اعوجاج فيه وكأنّهما قطعة واحدة، حتى رقبته من الخلف تبدو مُنسجمةً مع هذيْنِ المكانيْنِ من جسده، الغريب أنّ إليته - أيضاً - تظهر مستقيمة مع ظهره ورأسه، وكأنّها مصدومة لا يبدو لها بروز طبيعيّ، وحتى فخذاه يستقيمان مع استقامة رأسه وظهره وإليته، ما عدا ساقَيْه اللذيْنِ يخالفان هذه الاستقامة لضمورهما، فيبدو جسمه كدميّة أطفالٍ مصنوعة من إسفنج، منفوخة من الأعلى ومثبتة بعوديْنِ خشبييْنِ نحيلين، المهم أنّ جسمه من الخلف يبدو كأنّه جدارٌ من طوبٍ لا يوجد فيه أيّ اعوجاج مع وجود بعض النتوءات غير البارزة ولكنّها خشنة مع وجود شَعر خشن سميك يغطي أماكن كثيرة من جسده.
حين يجلس على الكرسيّ يتدلى بطنُه كطفلٍ صغير لم يتجاوز الأشهر الثلاثة الأولى من عمره في حضنه، يُشعلُ سيجارته الأولى فتنتهي في ثوانٍ معدودة ثم يلتهم الثانية فتنتهي في دقيقة ثم يأتي على الثالثة ولكنّها تأخذ وقتاً أطول، حين ينتهي في خمس دقائق تقريباً من عملية التدخين، يتحرك بطنه فيضطر للذهاب إلى الحمام، الذي يقضي فيه ضعف وقت تدخينه، حين يخرج تبدو ملامحه متغيّرة تكسوه فرحة مع دخوله في غيبوبة بسيطة، يغمض عينيه كي يفيق ولكنه لا يستطيع، يعود لكي ينظف فمه وأسنانه من رائحة الدخان، فيأخذ باستعمال فرشة الأسنان ومعجونها، ويتغرغر كثيراً ومراراً، ثم يأكل (علكة) أو (حبّاً محمصّاً) من أجل أن يخفي رائحة الدخان، ثم يلبس ملابسه ويعدل من هندامه ويتلثم قبل أن يخرج من غرفته، يفتح الباب بهدوء كما يغلقه بهدوء، ويسير مسرعاً متوجهاً إلى سيارته يعمل على تشغيلها عن بعد لكي ترتفع حرارتها ويمشي مباشرة دون انتظار ودون أن يفتح أنوار سيارته.
لا تتجاوز مدة جلوسه في غرفته نصف ساعة صباحاً ومثلها مساءً، ومع هذا يشعر فيها بالحريّة الكاملة في عالم هلاميّ يعيش داخله، وكآبة عميقة تحيط قلبَه تجعله دائماً شاكياً من حياته على الرغم من أنه يعيش وضعاً مادياً جيّداً خالياً من الديون أو الأقساط، ومع هذا ها هو قد تجاوز الخمسين من عمره وهو لا يزال رجلاً خائفاً حذراً حريصاً.

ذو صلة