مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

محمد الراشدي: الأدب ليس مخرج طوارئ

حوار/ منى حسن: السودان


يرى القاص والناقد محمد الراشدي أن اللغة هي أحد أهم مكونات القصة القصيرة الناجحة، وأن كل سرد تخذله اللغة يتقشف كأوراق الخريف.
ومحمد سعيد الراشدي قاص وناقد وإعلامي سعودي، يعمل في قطاع التعليم بالهيئة الملكية في ينبع. تميز أسلوبه القصصي بالإثارة والتشويق، والمزج بين الواقع والمتخيل، إضافة للغة الساخرة التي كثيراً ما ترتديها قصصه ومقالاته. وهو صحفي وناقد جريء في طرح آرائه النقدية والفكرية، له عدة إصدارات في القصة القصيرة والنقد الأدبي والكتابة الساخرة، منها: (احتضاري) مجموعة قصصية، (شهد على حد موس) مقاربات في الثقافة والأدب، (أيقونة الرمل) مقاربات نقدية في تجربة الشاعر محمد الثبيتي، (نكز) نصوص ساخرة، (العقرب) مجموعة قصصية، (سقف مستعار) مجموعة قصصية. حاز على عدد من الجوائز في مسيرته الأدبية، أبرزها جائزة أبها الثقافية في القصة القصيرة عام 1435، وجائزة سوق عكاظ الدولية للسرد العربي في القصة 1438، وجائزة أدبي حائل للقصة القصيرة 1439. ونال مؤخراً جائزة محمد الثبيتي للإبداع في دورتها الرابعة فئة النص المسرحي. كما كتب ويكتب في عدد من الصحف والدوريات الورقية.
التقيناه في الحوار أدناه للحديث حول تجربته الإبداعية، وعدة قضايا ذات صلة:

أيهما سبق الآخر في الدخول إلى عوالمك: الإعلام أم كتابة القصة؟
- الكتابة الإبداعية والإعلام شغفان استبقا الباب في قلب فتى قروي كان يريد أن يَفْجر أمامه، يتحرى أزمنة الشمس ومغادرة الفضاءات القديمة. وإن كانت القصة باكورة الشغف والعشق الذي باكر القلب فصاغه بلباقة السرد ولهفة الحكايات وزاحم كل حب سواه؛ أما الإعلام فبعد تجارب قصيرة فيه توزعت بين التحرير الثقافي في بعض الصحف، وتجربة قصيرة في الإعلام المرئي؛ عرفت يقيناً أن الصحافة طاحونة هائلة تدك العمر والوقت وطاقات الإبداع، ولا تتخطى غنائمها نزراً يسيراً من الضوء والبريق الذي لا يضيف جديداً، وزهدني ذلك في لهاثها، خصوصاً حين تجلت الحسرة حكايات وجع في أسماء لافتة لمبدعين أنفقوا أعمارهم في الإعلام وحصدوا الخواء، وتعمقت هذه القناعة عندي والإعلام يتخلى عن مركزيته وعروشه القديمة ويتضاءل حتى تكون أقصى مؤونته اشتراك إنترنت وهاتف ذكي!
ما هي مكونات القصة القصيرة الناجحة في نظرك؟
- المكون الأخطر في تقديري ذلك الوجيب المحبب الذي يجده القاص في روحه حين تتخلق فكرته في وعيه، وحين تأتلف بين عينيه أمشاجاً من خفق القلب، ونزيف الذاكرة، وأصداء كل شيء.
هو ذاته إحساس الصياد والطريدة على مرمى لهفة منه. ثم تتدرج المكونات في الخطورة، بين إدراك القاص لطبيعة هذا الفن والمساحة الملغمة شديدة القصر والتوتر التي تتحرك فيها لغته وأفكاره، ثم اللغة، اللغة. وكل سرد تخذله اللغة يتقشف كأوراق الخريف!
متى تشعر بالرغبة في التحرر من الواقع وإعادة بنائه بخيال القاص؟
- الأدب ليس مخرج طوارئ نلوذ به حين نختنق أو توصد دوننا الأبواب في متاهات الحياة، وكذلك فالقلم لا يستنسخ مهام الإزميل وهو يعيد نحت وتشكيل الحياة. صحيح أن التحرر من الواقع باعث رئيس في الممارسة الإبداعية، لكن الأدب عموماً والسرد على نحو خاص يدخل في صميم مهامّه الاشتباك مع الحياة والتعالق مع تفاصيلها ومباراة إيقاعها، وفي أثناء ذلك وعلى الضفاف ينتج الأدب واقعه ويطلق عقال الأمنيات الحبيسة في الوجدان، وعليه فالقصة بالنسبة لي أرجوحة معلقة فوق الجحيم ينالها اللهب فتلوذ بالريح، وتسلمها الريح إلى اللهب، في مراوحة مداها العمر كله والحبر كله!
ما مدى تأثير البيئة المحيطة بك في تكوين عالمك القصصي؟
- البيئة مزيج دمي وحبري، لكن يحدث أن تكون البيئة لوثة في وعي الكاتب، حين يختلط عليه الأمر بين دور المبدع ومهمة المصور الفوتوغرافي، أو بين طبيعة القصة القصيرة وتفاصيل الفيلم الوثائقي، فينفق وقته في أرشفة بليدة يمكن أن تتكفل بها على نحو أكثر براعة كاميرا مصور هاوٍ، وبخاصة أن التوثيق يتراجع في قوائم مهام الأدب في الزمن الرقمي.
البيئة رافد أولي على نحو عالٍ من الأهمية. وحرفية المبدع تكمن في إعادة توجيه ذلك الرافد واجتراح القنوات التي تعبر فيها مياهه جهة إبداع أكثر رواء وجمالاً.
إلى أي مدى يساهم المخزون اللغوي للقاص في تطوير أسلوبه القصصي؟
- لا حظّ في الإبداع لمن تقصر به اللغة، ومن قصرت به جياد اللغة لم تسرع به بقية عناصر اللعبة الكتابية. اللغة الذخيرة، واللغة الآنية، واللغة الحافز، اللغة الضياء الذي تبرق فيه الرؤى وتتبلور الأفكار ويتسع وعي المبدع بذاته ومحيطه. وضمن الأسباب الرئيسة في تهافت كثير من تجارب السرد القصصي لدى الجيل الشاب؛ فقر اللغة وتواضعها.
هل ما زال للكتابة الساخرة دور في نقد ومعالجة مشاكل المجتمعات؟
- السخرية سلوك إنساني يتشظى في أشكال مختلفة ليتخذ طابع النضال ضد كثير من سوءات وتشوهات الحياة، والكتابة الساخرة ضمن شظايا ذلك النضال، حيث تنغرس عميقاً داخل مشهد الحياة في ممارسات لا تتوخى بالضرورة التغيير اللحظي أو المباشر، إذ التغيير مهمة فادحة تنهض بها مؤسسات شتى، إنما لترفد على الدوام ذلك النضال الإنساني في ميادين القبح والرداءة وبواعث القهر والكمد، وفق آلية مخاتلة لا تعبس في وجه الحياة إنما تدثر النزف والوجع بالضحك، وتتنكر فيها الدموع على هيئة قهقهات تدوي بغير صدى في كثير من الأحيان!
ما أهم مقومات كتابة الأدب الساخر؟
- إدراك الفارق بين السخرية والتهريج، والوعي بالفضاءات التي تتحرك فيها السخرية دون أن تنحدر لتكون إسفافاً، أو جنوحاً إلى الشخصنة، أو تنغلق دون التواصل مع قارئها، ومعرفة أن السخرية خطاب عابر للآفاق يتخطى مجرد استدراج الضحك ليكون ممارسة إبداعية في منتهى الذكاء وأقصى الصعوبة، تتخذ الضحك وسيلة وتنتظره غاية وتؤمل وراءه مقاصد أعمق وأخطر، وتلك في تقديري -بعد تلقائية الموهبة- مقومات الكتابة الساخرة.
بين النقد والكتابة الإبداعية؛ أين تجد نفسك أكثر؟
- لا أقيم أسواراً شاهقة بين الإبداعي والنقدي عندي، فالنقد بالنسبة لي ممارسة إبداعية على نحو خاص، ووفق قواعد تلائم كنه تلك الممارسة.
الناقد الحقيقي مبدع متجاوز، يتخطى مدرسية النظريات ووعثاء النقد التقليدي ليجترح دهشة خاصة لا تفرّط في منهجية النقدي، ولا تتخلى عن جماليات الإبداعي.
خارج الذاكرة اليوم كل أولئك النقاد الذين تخشبوا وراء النظريات، وسُكبوا في القوالب ثم لم يبرحوها، في حين أن أزهى الأسماء في الذاكرة النقدية أولئك الذين توخوا بنقدهم أن يكون فعلاً موازياً أو مقارباً للمنتج الإبداعي ذاته، وفق الرؤى والآليات التي تخصه.
في عصر الرواية؛ هل مازال للفنون السردية الأخرى كالقصة القصيرة القدرة على الإدهاش والتأثير؟
- جملة عصر الرواية من المسكوكات الجاهزة التي تتداول على نطاق واسع، ونبرع نحن العرب في تسويقها وترويجها دون مساءلات أو مراجعات أو حتى تبصر بالواقع ومعطياته.
العصر بات على درجة مذهلة من التنوع والتعدد، يستحيل معها أن يحتكره جنس إبداعي بعينه، فمثلاً حين نقول إنه عصر الرواية، فكيف نصرّف الطوفان الهائل من النصوص القصيرة جداً التي تشكل قوام أضخم منصات التدوين في التاريخ كله (تويتر مثلاً)؟!، وإذا زعمنا أن الشعر لا مكان له الآن، فهل نصادر حناجر آلاف الشعراء الذين ينسلون من كل حداب البوح والتلقي؟! وهل تقدُم الرواية يعني بالضرورة موت القصة؟ ولماذا هذا الهوس العجيب بالموت والجنائز حتى في أجناس الإبداع؟! لنترك الفنون تتجاور وتتحاور وتتقدم وتنحسر، ولنترك الوصاية الفارغة على أذواق الناس، وفي النهاية لا فن يموت، والدهشة والتأثير لا تخلقهما الرواية لأنها رواية فحسب وكذلك القصة، إنما هي توليفة تشبه السحر متى أتقنها المبدع لامس حدود الدهشة، وأحدث الفارق والتأثير بغض النظر إن كان روائياً أو قاصاً أو شاعراً.

ذو صلة