مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عيسى ديبي.. فنان (يقتل الوقت) ويخرج الضوء من أضلع الطبيعة

عيسي ديبي، فنان تشكيلي وأستاذ جامعي، مؤسس لقسم الفنون الجميلة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عاش بين العواصم العالمية طالب علم، ومقيماً حتى تحصل على الدكتوراه والجنسية الأمريكية، ليكون أستاذاً جامعياً هناك، ويقيم المعارض الواحد تلو الآخر في نيويورك وولايات أخرى.
عاش الفنان عيسي ديبي في غرفة تقاسمها مع أخيه بمنزل والده في حيفا، ويقول عن مرسمه الأول بأنه كان ضمن منزل العائلة في شارع الفارابي بمدينة حيفا في فلسطين المحتلة: (كان عبارة عن غرفة كنت أتقاسمها أنا وشقيقي، وكنت أرسم على جدار الغرفة، حيث قمت باحتلال قسم كبير من الحائط للمكتبة والرسم، ثم لاحقاً حصلت على مفاتيح مرسم الفنان والمعلم الأستاذ عبد عابدي فكنت مساعداً له في المرسم وكنت أقضي أوقاتي في العمل، هذا باختصار النشوء، ثم بعدها انتقلت في مرسمي الخاص في أعالي الكرمل -كانت غرفة سطوح تطل على المدينة- ثم رحلة طويلة بين أيام الدراسة في موسكو وبريطانيا، والمحترف المهني الأول كان في بريطانيا مدينة ليفربول، وكان محترف لطلبة الفنون وكان لي جزء صغير فيه، واستمرت لمدة سنتين وثلاثة أشهر فترة الدراسة الأولى في بريطانيا، وانتقلت بعد ذلك إلى مانشستر، حتى توقفت عن الرسم في ذلك وذلك بسبب الإضاءة، فقد كانت الشمس مختلفة، ومعتمة تختلف عن الشمس التي أعرفها في فلسطين، لذا توقفت وأصبحت أصور وأقرأ وأدرس تجارب الإنجليز وعلاقتهم مع المكان، وأعتبر التجربة البريطانية هي الأهم بالنسبة لي فقد درست فيها المرحلة الأولى سنتان ونصف السنة، ثم ذهبت إلى أمريكا وعدت بعد ذلك لدراسة الدكتوراه لمدة ست سنوات، فقد ساعدتني التجربة البريطانية في بناء شخصيتي الفنية والأكاديمية أيضاً. ثم مرسمي في نيويورك، والقاهرة والآن في مدينة جنيف السويسرية، أشارك في ورشة كبيرة للفنانين السويسريين والأجانب، أسرق بعضاً من الوقت من عائلتي لأتفرغ للعمل).

ديبي وصدمة الضوء
وحول انتقاله للدراسة في بريطانيا وكيف أثر الطقس البريطاني على نفسية عيسي يقول: (أنا القادم من الشرق حيث كانت الشمس طبيعية في جميع الفصول والأوقات، بينما في بريطانيا وجدت الألوان الداكنة المائلة إلى الرمادي، الأخضر الرمادي، جميع اللوحات الفنية الإنجليزية تجد ألوانها داكنة، فهي بلد معتمة جداً، لذا كانت لدي صدمة الضوء التي صاحبها صدمة المعرفة أيضاً، ولم تكن لدي علاقة مع الطبيعة البريطانية لأني فقدت الدفء مع الوطن، شعرت بأني لا أستطيع الاستمتاع بالريف الإنجليزي، أو الطبيعة البريطانية بشكل عام).

في القاهرة
وحول تأسيسه لقسم الثقافات البصرية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة قال: (تواجدت بين عامي 2009 إلى 2013 لتأسيس القسم لكن المشاعر المصاحبة كانت مختلفة حيث شعرت لأول مرة بأني في منزلي، ما بين خروجي إلى دول العالم والعودة للعالم العربي بعد 15 سنة اغتراب في دول العالم، وأعتبر القاهرة بالنسبة لي أهم تجربة في حياتي، حيث إن القاهرة مدينة عظيمة بكل ما تعني الكلمة، وتكتشف بأن المصريين لديهم قوة صبر غير طبيعية، وأستطيع أن أقول بأني شعرت بعروبتي في القاهرة، وشعرت بأني جزء من مشروع ثقافي عربي واسع، وأنتج للثقافة العربية وليس الفلسطينية فقط).

ما بين الفنان والأكاديمي
وما بين عيسى الفنان والأكاديمي هناك الكثير من المفارقات، إذ يؤكد ديبي أن تجربته نضجت بشكل أكبر، ويضيف بأن وجوده في نيويورك أعطته فرصة التواجد ضمن الثقافة البصرية هناك التي يقول عنها بأنها كانت (حركة قوية منذ ستينات القرن الماضي، إذ التجربة الأمريكية كانت تجربة مثيرة جداً وكنت فيها (نيويورك عام 1999م)، وما زلت هناك ولكني أستاذ زائر ومتجول في عدد كبير من دول العالم حتى عام 2017م كان عنواني الثابت في نيويورك).
كما يعتبر ديبي بأن الممارسة الأكاديمية جزء مهم من الممارسة الفنية، ويقول في هذا بأنه لا يرى (أي حواجز بين الإنتاج الشخصي كفنان والتدريب والتعليم كممارسة فنية، فلا يمكن لأي فنان أن يدخل إلى مجال التعليم خارج مشروعه الذاتي، أما بالنسبة للأكاديمية الفنية فهذا حديث مطول -وبخاصة في السياق العربي- نحن بحاجة إلى تجارب جديدة حاجة ماسة، فإن السائد في العالم العربي ضعيف وبحاجة إلى تطوير، لقد قمت أنا وزملائي، د. مالك خوري ود.شادي النشوقاتي بتأسيس أول برنامج أكاديمي متعدد الوسائط للدراسات الثقافية في الجامعة الأمريكية في مصر، لكن هذه التجربة الآن بحاجة للمراجعة لكي تتمكن من التطور، أتمنى لو كان من الممكن أن نقدم شيئاً للجامعات العربية وذلك لكي نتمكن من الوصول إلى شريحة أوسع من الناس، تبقى الجامعات الخاصة مشروعاً صغيراً مقارنة بالجامعات الوطنية التي أعتبرها الأهم في السياق العربي، ومطلوب منها أن تكون رائدة).

المرسم في نيويورك
وعن مراسمه التي تنقل إليها ومنها في أمريكا يقول: (كان لدي عدة مراسم، الأول من المدينة في منهاتن، وكان منحة وكنت أرسم وأصور فيه وقدمت أول مشروع لي هناك ضمن متحف كوينز، وكان يسلط الضوء على الفنانين المهاجرين، وعملت مشروعاً خاصاً بالمهاجرين من خلال الفيديو، وأعتبر نفسي فناناً متعدد الوسائط علماً بأن دراستي الأساسية هي الرسم، ونيويورك هي التي شجعتني لبداية أطروحة الدكتوراه، بسبب مشروعي الذي قدمته في المتحف وعنوانه (قتل الوقت)، وهو أول مشروع لي كمهاجر، وتعاملت مع حياتي اليومية كمهاجر).
ويضيف عيسى ديبي: كل عمل إبداعي هو مشروع معاناة وتحد وبناء وتأمل وفشل ونجاح وإحباط، وكثيراً ما أتساءل لماذا أنا أرسم، الوظيفة لا تبدل دور الفنان، التعليم هو جزء من عملية الإبداع، إذا كنت مبدعاً فأنت تشارك بالتجربة، وتشارك المعرفة، وأساس التعليم هو مشاركة المعرفة وليس التلقين، اخترت التعليم لسببين: أولهما أن مشروعي الفني مرتبط بالتاريخ السياسي للمنطقة، فأنا لا أرسم للتزين، فأنا أخذت على عاتقي الاشتغال على تاريخ القضية الفلسطينية كفنان، لذا هذه الفكرة تضع عملي خارج العمل التجاري.

ساعات المرسم
وحول الأوقات التي كان يقضيها عيسى للرسم أثناء فترة الدراسة قال بأنها كانت مرتبكة: (أحياناً في النهار ولكن أغلب الوقت كنت أفضل ساعات الليل لأني أحب الوحدة والسكينة في العمل، فكنت أسرق الوقت ليلاً للعمل، وبعض الأيام كنت أقضي الليلة كاملة في المرسم، وذلك بسبب طبيعة عملي في الشباب كرسام كاريكاتير ومصمم في الصحافة الفلسطينية، كنت أفضل الليل).
أما عن أوقات الرسم في الوقت الراهن يقول بأنه أصبح كائناً نهارياً حيث الحياة العادية التي تجبرك على العمل صباحاً، وأباً ما بعد الظهيرة، وصاحب أسرة في المساء، لذا أصبح الوقت مفتوحاً لأي لحظة قد أجدها مناسبة وأذهب للمرسم.
وحول المراسم التي تنقل لها ما بين فلسطين وبريطانيا وأمريكا وجنيف قال ديبي: (في فلسطين كما تحدثت سابقاً كان المرسم (بيتوتياً) في البداية إلى أن استضافني أستاذي الأول عبد عابدي في مرسمه لسنوات كمساعد وصديق للعائلة ورفيق درب، ثم انتقلت إلى مرسمي المهني الأول في الكرمل فكان عبارة عن غرفة فوق السطوح، ثم في بريطانيا شاركت الفنانين في مراسم الجامعة، ثم في مرسم بشير مخول في مانشستر لفترة، ثم تحول عملي إلى مشروع متنقل، فلم أرسم لفترة وقمت بإنجاز الأعمال الفنية في الفيديو، والتصوير والصوت وحينها خرج عملي عن التقليد والعلاقة الكلاسيكية للفنان كرسام، فأنجزت أعمالي بين المنزل والمكتبة والمتحف وغيرها، وفي نيويورك حصلت على عدة جوائز مكنتني أن أحصل على مرسم جميل في وسط المدينة، وكانت تجربة مثيرة جداً، في القاهرة عملت من شقتي الكبيرة في حي الزمالك، فكانت ورشة عمل متعددة الوسائط، والآن عدت إلى ممارسة الرسم ولدي ورشة في المدينة أنا وبعض الزملاء أذهب هناك متى استطعت إليها سبيلاً).

المشاركة الأولى
وحول مشاركته الفنية الأولي يقول ديبي: كانت مشاركتي على صفحات جريدة الاتحاد في فلســــطــــــين، والمعــــــرض الأول كــــان في حيفا عام 86.

الأم وحكاية الوردة
لعيسي ديبي قصة مع رسم الوردة، من حيث المشاعر والمعني إذ يقول: (كان لوالدتي (عبلة) شغف وأمنية حيث طلبت مني عدة مرات أن أرسم لها جزءاً من الطبيعي -شيء من التفاؤل- لوحة تحمل الورود، آنذاك كنت في بداية النشاط السياسي ضمن الحركة اليسارية فرفضت لسبب ثوري يقول: إن الفن يجب أن يكون في خدمه العمل الثوري ولا وقت للفن السخيف، معتبراً بأن طلب والدتي برسم (وردة) سخيف، وكان هذا هو جوابي للمرأة التي ولدتني وتعبت في تربيتي. بعد أن توفيت -رحمها الله- أصابني ندم شديد، ولا زال يراودني حتى الآن، رأيت نفسي بعيوني المقتربة إلى الخمسين، وفهمت كم كان الشباب غبياً وساذجاً، وكم كنت وقتها إنساناً جامداً إلى درجة الغربة العاطفية، لدي شعور بأني لم أكن أفهم حينها معنى الأمومة، الذي لم أمتلك في تلك الفترة القدرة على التحليل المركب، كنت إنساناً غير قابل للحوار، ولا أعرف هل كنت غبياً إلى هذه الدرجة، أم كان ذلك إيماناً قوياً بأننا سنحقق الانتصار في قضيتنا قريباً، ما أعرفه الآن أنني كنت على خطأ، مما جعلني في مجموعة الأعمال التي قدمتها تحت عنوان (أرض الأمهات) أن أعيد الاعتبار لوالدتي، فأصبحت المجموعة التي هي عمل تصوير معقد أشبه بمرثية استخدمت فيها كاميرا تشبه كاميرا هاتف والدتي المحمول البسيط، وذلك لأنتج عملاً أحاول فيه أن أخاطب أمي بصرياً وأعيد إنتاج الطبيعية من مفهوم بصري معاصر يلائم ما أفكر به الآن، لكنه مستوحى من هذا الطلب البسيط الذي عمره تجاوز الثلاثين عاماً، وكان من المفترض أن نقدم العمل على شكل فيديو آرت، ويعرض في البيمارستان في تركيا، ولكن الأحداث السياسية المعقدة أدت إلى إيقاف المشروع وانتقاله إلى ألمانيا.

ذو صلة