مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

العالم السفلي لهاروكي موراكامي

حوار/ ديبورا تريسمان؛ ترجمة/ ليلى المطوع: البحرين


في عام 2010 في اليابان كان موراكامي شخصية مشهورة لا مثيل لها في عالم الأدب، بيع من روايته الضخمة المكونة من ثلاث أجزاء (1Q84) أكثر من ستة ملايين نسخة في أنحاء البلاد. وحين شارك في مهرجان نيويورك عام 2008 بيعت التذاكر خلال دقائق وتوافد المعجبون من كل أرجاء العالم لمقابلته، خصوصاً أنه عرف بتجنبه الظهور في الأماكن العامة.
يتحدث هاروكي دائماً عن اللذة الأولى وحس المغامرة الذي عاشه خلال أول تجاربه الروائية، وقد يكون هذا الإحساس هو الذي غذى شيئاً فيه، فدائماً ما ينطلق أبطال رواياته التعساء في مهام فضولية واستكشافية وينتهي بهم الأمر بطريقة غريبة ومألوفة. يعد هاروكي أستاذاً في التشويق وعلم الاجتماع، ولغته بسيطة ومخادعة تخفي وراءها لغزاً مخفياً. كتب عن الأغنام الوهمية، وحول اجتماع للأرواح في العالم السفلي، عن أشخاص صغار يخرجون من لوحة. لكن تحت هذه التخيلات المثيرة التي تشبه الحلم، فإن عمله يكون عبارة عن دراسة وبحث حول الروابط المفقودة، لكل من الكوميديا والتراجيديا التي أحدثها فشلنا في فهم بعضنا البعض.
ماذا يحب؟ هل هو رجل طيب؟
- كانت المرشدة المكلفة بتوصيلي لمكتب هاروكي في منطقة أوياما-طوكيو تسألني بقلق عنه. كان مكتبه يقع في مبنى غير معلم على جانب الطريق، كانت تنكمش بشكل واضح حين فتحت مساعدة هاروكي الباب، ورحبت بي وأرسلتها لتنتظرنا في محطة القطار القريبة.
هاروكي موراكامي: آخر مرة قمنا بعمل مقابلة كان ذلك منذ عشر سنوات، الكثير من الأشياء المهمة حدثت خلال هذه المدة، أصبحت أكبر بعشر سنوات، وهذا الأمر مهم على الأقل بالنسبة لي، أني أكبر يوماً بعد يوم، وعندما أكبر فأنا أفكر بنفسي بطريقة مختلفة عما كنت أفعلها حين كنت أصغر. في هذه الأيام أنا أحاول أن أكون جنتلمان -رجلاً مهذباً- وكما تعرفين ليس من السهل أن يكون الشخص (جنتلمان) وروائي في نفس الوقت، إن هذا الأمر مثل سياسي يحاول أن يكون أوباما وترامب في الوقت نفسه، لكن أنا أحاول توضيح ما يكون عليه الروائي الجنتلمان: أولاً، هو لا يتكلم عن ضريبة الدخل التي دفعها، ثانياً، هو لا يكتب عن حبيبته أو زوجته السابقة، ثالثاً، هو لا يفكر بجائزة نوبل للأدب. لذلك ديبورا أرجوك لا تسأليني عن هذه الأشياء الثلاثة، لأني حينها سأكون في مأزق.
لقد استنفدت مخزون الأسئلة لدي، في الواقع كنت أريد أن أبدأ الحوار معك حول آخر أعمالك، روايتك مقتل الكومنداتور، يدور هذا الكتاب حول رجل هجرته زوجته، وينتهي به الأمر في أن يعيش في منزل لفنان قديم، رسام، ومنذ دخوله إلى البيت تحدث أشياء عدة غريبة، يبدو أن بعضها يظهر من حفرة في أرضية تابعة للمنزل، (مثل بئر فارغ)، إني أتساءل كيف استطعت من خلال الارتكاز على هذه الفكرة أن تقدم العمل؟
- إنه كتاب كبير، أنتِ تعلمين، لقد أخذ مني أكثر من سنة ونصف، لكن الفكرة بدأت من خلال فقرة أو فقرتين، كتبت هاتين الفقرتين ووضعتهما على سطح المكتب، ونسيت وجودهما. بعد ذلك بثلاثة أو ربما ستة شهور لاحقة خطرت لي فكرة واعتقدت أنه ربما أستطيع تحويل هذه الفقرة أو الفقرتين إلى رواية، وبدأت الكتابة، لم أكن أملك أي خطة، لا جدول، حتى أني لم أملك خطوطاً للقصة، فقط بدأت من هذه الفقرات، واستمررت في الكتابة، تركت القصة تقودني حتى النهاية.
إذا كنت تملك خطة، إذا كنت تعلم النهاية منذ بداية الكتابة، هذا الأمر غير مسلٍّ. كتابة الرواية تصبح غير مسلية بالنسبة لي. ربما يقوم الرسام بتخطيط لوحته قبل الرسم، لكن أنا لا أفعل، كروائي هناك قماش أبيض، وأنا لدي الفرشاة، وهكذا أبدأ الرسم من دون خطة.
هناك شخصية أو فكرة في الرواية تأخذ شكل الكومنداتور من أوبرا موتسارت دون جيوفاني، لِمَ هذه الشخصية كانت محور العمل؟
- في العادة أبدأ كتبي بعنوان، في هذه الحالة كان لدي هذا العنوان (مقتل الكومنداتور)، ومنها كتبت أول فقرة في الرواية، كنت أتساءل أي نوع من القصص أستطيع الكتابة عنها من خلال هذا العنوان والفقرة؟ لا يوجد شيء في اليابان اسمه الكومنداتور، لكن أحسست بشعور غريب تجاه العنوان، وأنا أقدّر وأنجذب كثيراً للأشياء الغريبة.
هل (أوبرا دون جيوفاني) مهمة بالنسبة لك؟
- شخصية دون جيوفاني مهمة جداً بالنسبة لي، لكن أنا بشكل عام في مسيرتي الروائية لا أستخدم مثالاً واحداً أو أنموذجاً. فقط مرة واحدة استخدمت شخصية واقعية، كان رجلاً سيئاً جداً، شخصاً لم أحبه، وأردت أن أكتب عنه، وكانت مرة واحدة فقط، استثناء. وجميع الشخصيات في أعمالي خلقت من الصفر. منذ قيامي بخلق شخصية، هي أو هو يتحركون تلقائياً، وكل ما علي فعله أن أراقبهم، أراقبهم يتحركون في الأنحاء، ويتحدثون، ويقومون ببعض الأفعال. معظم الوقت حين أكتب أشعر كما لو أني أقرأ كتاباً مثيراً للاهتمام، لذلك أنا أستمتع بالكتابة.
في الرواية تستمع الشخصية الرئيسة إلى الأوبرا إضافة إلى مقاطع موسيقية أخرى، وكذلك نجد دائماً في أعمالك الأخرى أن الشخصيات لديها فرق مفضلة وتفضل أنواعاً موسيقية، حين يكون لشخصياتك موسيقى مفضلة هل هذا يساعدك على فهمهم؟
- عندما أكتب فأنا أستمع للموسيقى، لذلك تأتي الموسيقى بشكل طبيعي في أعمالي، أنا لا أفكر كثيراً بنوع الموسيقى، لكنها تمنحني الطاقة حين أكتب، إنها مثل الطعام بالنسبة لي. لذلك أكتب عن الموسيقى، وكثيراً ما أكتب عن الموسيقى التي أحبها، هذا الأمر جيد لصحتي.
هل تحافظ الموسيقى على صحتك؟
- نعم، كثيراً، الموسيقى والقطط، إنهما يساعدانني كثيراً.
كم عدد القطط التي تمتلكها؟
- لا أملك أي قطة. أذهب كل صباح للجري حول منزلي، وفي العادة أقابل ثلاث إلى أربع قطط، حين تراني القطط تأتي نحوي، هم أصدقائي، أجلس معهم وألقي عليهم التحية، إننا نعرف بعضنا البعض جيداً.
حين نشرت صحيفة نيويورك مقتطفات من (مقتل الكومنداتور)، سألتك عن العناصر غير الواقعية في عملك، قلت: (عندما أكتب يختلط العالم الواقعي مع العالم غير الواقعي بشكل طبيعي، ولم يكن الأمر خطة أتبعها عند الكتابة، لكن كلما حاولت أن أكتب عن الواقع بطريقة واقعية، يظهر العالم غير الواقعي، فيختلطان. بالنسبة لي الرواية مثل الحفلة، كل من يرغب بالانضمام يمكنه ذلك. ومن يرغب بالمغادرة يستطيع كذلك أن يغادر في أي وقت يشاء). إذن كيف يمكنك دعوة الشخصيات والأشياء للحفلة؟ أو كيف تصل لمكان حين تكتب يمكن للشخصيات أن تظهر وتأتي للانضمام إليك بدون دعوة؟
- القراء دائماً يقولون لي إن هناك عالماً غير واقعي في أعمالي، حيث يمكن لبطل الرواية الذهاب لعالم غير واقعي ثم العودة للعالم الحقيقي، لكن أنا لا أستطيع رؤية الخط الفاصل بين هذين العالمين، لذلك في أغلب الحالات يختلطان. في اليابان أعتقد أن العالم الآخر قريب جداً من العالم الواقعي، وإذا ما قررنا الذهاب للجانب الآخر الأمر ليس بهذه الصعوبة التي يمكن تصورها، لدي اعتقاد أنه في العالم الغربي ليس من السهل الذهاب للعالم الآخر، يجب أن تمر في مراحل حتى تستطيع الوصول إليه، أما في اليابان إذا أردت الذهاب له تستطيع ذلك بسهولة، لذلك في رواياتي إذا ذهبت إلى قاع بئر فهناك عالم آخر من السهل الانتقال إليه، ولا يمكنك بالضرورة التمييز بين هذا العالم والعالم الآخر.
هل بالضرورة أن الجانب الآخر (العالم غير الواقعي) مكان مظلم؟
- كلا ليس بالضرورة، أعتقد أن الأمر يتعلق بالفضول، إذا كان هناك باب تستطيع فتحه والعبور من خلاله للجانب الآخر، ستفعلها، إن الأمر متعلق بالفضول، ماذا يوجد هناك؟ ما الذي يوجد في الداخل؟ لذلك هذا ما أفعله كل يوم، حين أكتب رواية أستيقظ في حوالي الرابعة صباحاً، وأتجه لمكتبي، وأبدأ بالعمل فوراً. هذا يحدث في العالم الواقعي، أشرب قهوة حقيقية، لكن ما إن أكتب أذهب لمكان آخر، أفتح الباب وأدخل الجانب الآخر، وأرى ما يحدث هناك، لا أعلم ولا أهتم إذا كان هذا عالم واقعي أم غير واقعي، إني أغوص فيه وأذهب للأعماق، بينما أركز على الكتابة، في مكان يشبه أعماق الأرض، وحين أكون هناك أواجه أشياء غريبة ولكن حين أراهم بعيني يبدون طبيعيين للغاية، وإذا كان هناك شيء مظلم هذا الشيء المظلم يأتي إلي، وربما يحمل رسالة وأنا أحاول تفكيك وفهم هذه الرسالة، لذلك أنظر لما حولي في ذلك العالم وأصف ما أراه، ثم أعود، العودة مهمة جداً، إذا كنت عاجزاً عن العودة فهذا الأمر مخيف، ولكني محترف، لذلك أستطيع العودة دائماً.
هل تعيد الأشياء التي رأيتها معك؟
- كلا، سيكون ذلك مخيفاً، إنني أترك كل شيء على حاله وفي مكانه. حين لا أكتب أنا شخص منظم جداً، وأحترم الروتين اليومي، أستيقظ باكراً كل صباح، وأذهب للسرير في حدود التاسعة مساءً، إلا حين تعرض مباراة بيسبول في وقت متأخر. إني أجري وأسبح كل يوم، أنا شخص عادي. لذلك حين أسير في الشارع ويقول أحدهم: معذرة سيد موراكامي أنا سعيد جداً بلقائك. أشعر بالغرابة. أنتِ تعلمين، لست شخصاً مميزاً، لِمَ هو سعيد بلقائي؟ ولكن حين أكتب أشعر أني شخص مميز، وأملك شيئاً غريباً.
قلت ذات مرة إن حلم حياتك هو الجلوس في قاع بئر، فعل عدد من شخصياتك ذلك، وهناك شخصية (منشكي) في رواية مقتل الكومنداتور يفعل ذلك، ما سر هذا الانجذاب؟
- أنا أحب الآبار كثيراً، وأحب الثلاجات، وكذلك الفيلة، وعندما أكتب عن الأشياء التي أحبها أكون سعيداً، عندما كنت طفلاً، كان هناك بئر في منزلنا، وكنت أطل بداخله مما ساعد خيالي على النمو، هناك قصة لريموند كارفر حول السقوط في بئر جاف، أحب هذه القصة كثيراً.
هل جربت النزول لداخل بئر؟
- كلا، كلا، إن الأمر خطير جداً، فقط في خيالي أفعل ذلك، لكنني أحب الكهوف أيضاً، وحين أسافر حول العالم أحب زيارة الكهوف والتجول داخلها، إني أفضل الكهوف كما أني أكره الأماكن المرتفعة.
........................................................................
 The New Yorker Interview by Deborah Treisman

ذو صلة