مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

نعمات حمود: الطيب صالح عقدة العالم مع السودان

حاورتها: أسمهان الفالح: تونس


لا مراء أن الأدب بمختلف أشكاله الأجناسية نتاج فكر إنساني متنوع، وحصيلة رؤى مؤثرة. إنه مسيرة ومسار تستعيدهما الذاكرة الجمعية عبر أشخاص قريبين بعيدين على حد السواء، اجتمعوا رغم ما يفرقهم من جنس ولون وعرق ودين على توحيد الصف ولملمة الأمة وقد كانت إلى شتات، لتنضوي تحت لواء اللغة والهوية. فكيف نستسيغ اليوم قولبة الكتابات العربية ضمن أطر معينة تبعاً للجنس أو البلد؟ أفلا يُعدُ ذلك ضرباً لوحدة الأدب وتمزيقاً لكيانه وتجنياً على منظومة بأكملها؟
هكذا تساءلت ضيفة (المجلة العربية) نعمات حمود، مشددة على أن فكرة التصنيف باطلة، لاسيما إذا نظرنا إلى خلفياتها. مبررة ذلك بوجود تيار من المدعين يعلي من شأن الكتابة (الرجالية) إن صح التعبير، في حين يستهجن نظيرتها (النسوية) ويتهمها بالقصور وعدم بلوغ مرحلة النضج الكافية، لأنها تبقى حبيسة ذات التوجه، لا تعرف منه فكاكاً: تظلم من سلطة المجتمع الذكوري القاهر وشكوى من الهجر أبداً لا تنتهي. فيتكرر نفس المحتوى ويتم اجترار الأفكار عينها من نص إلى آخر، فقط يتغير اسم الكاتبة وشكل الغلاف.
وتضيف حمود: «صحيح أن هذا القول له وعليه، فقد ينطبق على فترة تاريخية محددة، وعلى نماذج من الكتابات مخصوصة لا ترقى إلى مصاف الإبداع، لكن التعميم هنا سيسقطنا ولا ريب في المغالاة حد الشطط، فلدينا كاتبات متمرسات لمعن وتألقن في مجالهن، وطرحن قضايا جريئة: فلسفية ودينية وسياسية، بفكر معاصر، وفرضن على الآخر احترامهن لما يتميزن به من نباهة ونبوغ وأسلوب رصين. هن امتداد لجيل عائشة عبدالرحمن ومي زيادة وإضافة نوعية له». وقد كان للمرأة السودانية المغتربة بصمتها المتفردة في هذا الإطار، وهو ما سنتبينه عن كثب مع هذه الكاتبة المسكونة بالهم الثقافي حد الصداع.


بداية كيف تقدم نعمات حمود نفسها لجمهور القراء؟
- نعمات حمود روائية وإعلامية من شمال السودان، أصيلة مدينة أم درمان، متحصلة على بكالوريوس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية من جامعة الجزيرة. صدر لي روايتان: (همس النوارس) و(في ذاكرة القلب) ولي تحت الطبع (من بعيد..مرافئ الغربة).
درستُ الصحافة في كلية الدعوة والإعلام بالسودان، وأنا حالياً مراسلة قناة النيل الأزرق الفضائية السودانية، وموظفة بحكومة الشارقة، دائرة الثقافة قسم الإعلام، ناشطة بالحراك الثقافي بدولة الإمارات، وأواكب نشاطات الجالية السودانية بشكل خاص، فأنظم العديد من الأمسيات الأدبية وأقدم أبرز الفعاليات عبر منصات معارض الكتب واتحاد الكتاب وبيوت الشعر.
هل كان لتجربة الاغتراب التي عاشتها نعمات حمود على مدار عقد ونيف الأثر الجلي في كتاباتها؟ وهل كان ذلك واعزاً للفعل الإبداعي أم كابحاً له؟
- الوطن قيمة داخل كل إنسان لا يفارقه أينما ولى وجهه، صحيح أننا قد نبتعد عنه بعض الشيء لتحقيق ذواتنا في أماكن أخرى، إلا أننا نظل ندور حوله، نتحسس كل ما ينتمي إليه، كل ما يشابهه، كل ما يعيدنا إليه.. تشحننا ذكرياته ويملؤنا الحنين إليه وإلى مراتعه.. والسودان حاضر في داخلي حيثما أكون وما أن أختلي بقلمي حتى يكون أول سطوري، وهو في كل كتاباتي حاضر.. فهو استهلالي لكل عمل أقدمه، وبقدر المحبة يكون الإبداع.
 كيف تفاعل جمهور القراء والمثقفين مع روايتك (همس النوارس)، لا سيما وأنها تطرح قضايا جادة تتغلغل في صلب النسيج المجتمعي العربي والإسلامي؟
- (همس النوارس) كانت حبيبة لقلب كل من قرأها، فقد لامست وجدان الكثيرين لا سيما المغتربين منهم، كتبتها بصدق وجرأة لا متناهية، تهيبتها كثيراً في البداية، ولكن الحمد لله أشعر بالراحة لأنني وضعت خلاصة تجربتي بشجاعة بين رفوف مكتبات العالم لتضيء طريق الكثيرين في بلاد الاغتراب.
الصمت ما بين روايتيْ (همس النوارس) و(في ذاكرة القلب)، بم تفسره نعمات حمود؟
- بين (الهمس) و(ذاكرة القلب)، فترة انتظار وترقب، الهدف منها الإفادة من النقد والتأسيس عليه لتطالع الرواية الثانية القارئ في لبوس متميز يرقى إلى تطلعاته.
 قبل أن تكوني روائية أنت قاصة، ولا ريب أن ذلك امتداد طبيعي لكل أديب، فكيف كانت النقلة؟
- كنت أجيد الحكي منذ نعومة أظفاري، وما أزال أشعر حد الساعة أن بداخلي امرأة حكاءة تجيد تمثيل كل نص سردي. وقد أجدت التعبير وتفوقت فيه منذ المراحل الأولى من التعليم الأساسي، فكتبت قصصاً قصيرة لصديقاتي، وكن ينسبن شخصياتها وهن مستغرقات في ضحك عميق إلى فواعل حقيقية موجودة في محيطنا. وعن نفسي لم أجد عنتاً في الانتقال من تجربة النص القصير إلى النص المركب، ناهيك وأن الرواية لا تعدو أن تكون قصة طويلة مع الاختلاف في اعتماد تقنيات الكتابة وآلياتها.
من خلال باعك الطويل في مجال الصحافة، هل ترين أن العمل الصحفي يضيف إلى الكاتب أم أنه يقتل الحس الإبداعي فيه؟
- العمل الصحفي يقيد الكاتب ويحد من حريته، فالنص الذي تُفرضُ عليكَ كتابته في زمن معين لا ينبغي أن تتجاوزه، وفي حدود كلمات مضبوطة يجب ألا تتعداها، يقتل عوامل الدهشة والإبداع لديك، باعتبار أن الكتابة حالة مزاجية تداهمكَ على حين غرة كما المخاض، بينما يتحول مع الصحفي إلى وظيفة مملة تقوم على الاجترار.
 تقطع المسارات الأيديولوجية عادة مع الأدب، وتقف منه موقف العداء، فهل يخدم ذلك الأدب أم أنه يجعل الكاتب حبيس الرقيب مما يقلص من حظوظه في الانتشار عربياً وعالمياً؟
- الكاتب ضمير وقلم وخيال. غير أن الرقيب، هذا المفرد المتعدد (المجتمع، العادات، التقاليد...) يحاصره من كل حدب وصوب، ويقلص من مساحة الحرية لديه، وإن لم يكن الكاتب شجاعاً وجريئاً لن يكون صادقاً مع القراء ولا حتى مع نفسه. إنه النفاق في أجلى معانيه يتبلور في نص مشوه.
 أم درمان مدينة تتشح بتاريخها العريق وحضارتها الممتدة، وتزدهي بأجوائها الصاخبة؛ كيف أثر ذلك في تكوين كاتبتنا؟
- أنا أمدرمانية النشأة، تربيت على الأدب والشعر والمقاهي الثقافية، نهلت من معين إبداعات عظمائها واستزدتُ. فخرجتُ إلى العالم في ثوبها القشيب. أم درمان العاصمة الوطنية وعاصمة الثقافات المتعاقبة، ومنشأ لكل جهابذة الأدب والفن والفكر.. السودان.. أم درمان.. النيل... أنا مدينة لها بكل جميل.
 شهدت الساحة الأدبية السودانية والعربية مؤخراً طفرة في مستوى الكتاب والشعراء، رغم محاولات التضييق المتكررة؛ فهل يمكننا القول إن الأدب بات سلطة في حد ذاته؟
- فتحت التكنولوجيا آفاقاً لا حدود لها، فكسرت قيد التضييق، وتعرف العالم إلى أسماء وازنة في مجال الشعر والقصة والرواية، ولكن الناس في بلدي يعانون تهميشاً في شتى مناحي الحياة مما ينعكس سلباً على نتاج المبدع الفكري والأدبي بفعل انشغاله بتصريف أموره وتدبر شؤونه اليومية.
كيف تنظرين إلى الساحة الأدبية السودانية الآن؟
- ظروف كثيرة تغيب أهل الإبداع، فإما أن تهاجر وتبدأ مسيرتك تأصيلاً لكيان، وإما أن تنكب على كتاباتك دون أمل في أن تصل إلى المتلقي لصعوبة النشر وتكاليفه المشطة، فيصبح إنتاجك حبيس الأدراج يندثر بموتك.
وكيف تقيمين حركة النقد فيها؟
- النقد موجود ولكن ماهي الأعمال التي يتوجه إليها؟ ولمن؟ وكيف؟ هناك تغييب وتضييق وحالة إحباط تلازم المبدع السوداني منذ فترة أسبابها واضحة ومعلومة للعموم. ولكن سيبزغ الفجر يوماً، وسيرى العالم ما لا يتوقعه منه.
 رغم تنوع الأصوات الأدبية في السودان وجودة منتوجها، فإن السرد السوداني لم يستطع فرض نفسه بعد في الساحة العربية، فهل يعود ذلك إلى عدم قدرتنا على التخلص من عقدة الطيب صالح؟
- لم نعش داخل السودان عقدة الطيب صالح، ولكن ربما هي عقدة العالم معنا.. وضعوه مقياساً لنا فكبلوا أصواتنا كي لا تصدح عالياً رغم أن أقلامنا منطلقة لا يحدها أفق. وهناك آلاف الطيب صالح بالوطن غير أنه لم تتح لهم فرصته ولم يجدوا حظه.
التحقت نعمات حمود بالعمل بدائرة الثقافة بإمارة الشارقة منذ سنوات؛ حدثينا عن تأثير العمل بهذا المكان ذي الخصوصية عليك ككاتبة وكذلك على الصعيد الإنساني؟
- دائرة الثقافة هي صانعة الحراك الثقافي جميعه، فقد أتاحت لي الفرصة لأجتمع بأهل الشعر والأدب والمسرح والتراث والإعلام، حتى أنك لتستشعر نوعاً من الزخم المعرفي وأنت تجالس دان براون وواسيني الأعرج وكتّاب البوكر وأحلام مستغانمي وسميحة أيوب وسعاد العبدالله وأشرف عبدالغفور.. وغيرهم من الأسماء البارزة على الساحة الأدبية والفنية. لذلك أعتبر نفسي محظوظة لأنني وجدت المكان الذي لطالما حلمت به.
تقوم دائرة الثقافة برعاية وتنمية العمل والنشاط الثقافي في إمارة الشارقة -عاصمة الثقافة العربية- فكيف كان الحصاد الثقافي لسنة 2018؟ وما مردوده على أبناء الشارقة والمقيمين؟ ثم ماهو المنتظر في السنة الإدارية الجديدة 2019؟
- الشارقة منحتني الأفق المعرفي اللا محدود. هي إمارة الثقافة العربية والإسلامية والعاصمة العالمية للكتاب لعام 2019. ومشروع حاكم الشارقة الثقافي الشامل امتد الآن إلى البلدان العربية والعالمية: بيوت شعر في الوطن العربي وجوائز عربية بدول مختلفة وملتقيات للسرد في أقطار شتى.. فشكراً شارقة الثقافة.. حالة نادرة من العطاء الثقافي تنبع من سلطانها وينهل الجميع منها بلا مقابل.. فشكراً دوماً للشارقة التي تشرق محبتها ضوءاً وحباً وسلاماً في داخلي.

ذو صلة