مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الكاتبة الصينية (آشه): تطبع الصين 8 آلاف رواية سنوياً

حاورها: منير عتيبة: مصر


لم تكن (آشه) تشعر بالغربة في الإسكندرية.. فها هي تجلس مع أصدقاء صينيين يتعلمون العربية، وأصدقاء مصريين يتعلمون الصينية، أمامها وجبة أسماك اعتادتها كثيراً حتى إنها قالت (هذه الشوربة صينية).. وبجوارها منظر جانبي لمسجد سيدي أبو العباس المرسي.. وغير بعيد شاطئ الإسكندرية التي قضت بعض يوم تتأمله من فوق أسوار قلعة قايتباي، ولم تزل تذكر الطعم الشهي لرغيف (الحواوشي) الذي أكلته في الصباح.. حدثتني عن نجيب محفوظ الذي قرأت ثلاثيته الشهيرة (محفوظ كاتب عظيم، استطاع التعبير عن وطنه بواقعية جميلة، لكنه رجل استطاع التعبير عن الرجل أفضل مما عبر عن المرأة، أتمنى لو قرأت أدباً للمبدعات المصريات مترجماً إلى الصينية).. كان الأستاذ أحمد السعيد مؤسس بيت الحكمة المهتم بترجمة الأدب الصيني إلى العربية هو همزة الوصل بيننا، كان قد تفضل بإهدائي مجموعتها القصصية (العظام الراكضة) التي ترجمتها إلى العربية يارا المصري.. كانت قصص المجموعة قادرة على شد القارئ للتواصل معها، إنها تتحدث عن ثقافة مختلفة، ببساطة إنسانية يبين فيها بوضوح تأثير الأدب الروسي.
(آشه) كاتبة صينية مسلمة، من مواليد 1971، من قومية الأويغور. تشغل حالياً منصب نائب رئيس رابطة كُتاب مدينة ينتشوان. تنوعت أعمالها الأدبية بين النصوص النثرية والقصص القصيرة. وقد نُشر لها مؤخراً الرواية التاريخية الطويلة (ووتسون)، والمجموعة القصصية (العظام الراكضة)، و(أين الأرض المنعزلة)، ومن النصوص النثرية (الفراشة البيضاء والفراشة السوداء)، و(آثر الارتطام). وهي الكاتبة الوحيدة التي حازت على جائزة مجلة (أدب الأمة) عن أعمالها النثرية والقصصية لثلاثة أعوام: 2010، و2011، وأخيراً عام 2014. وفي عام 2016 حازت على جائزة مجلة (أكتوبر) للنثر. كما حازت قصتها القصيرة (الأذن اليسرى) على جائزة مجلة (شوه فانغ) للأدب عام 2016. وقد ترجمت مجموعتها القصصية (العظام الراكضة) إلى اللغة العربية.
تعترف عائشة بأنها خجولة، وأنها تجيد الكتابة أكثر من الكلام، لأن الكتابة تمنح الكاتب الوقت الكافي للتأمل، لكن من يحاروها يلاحظ أن هذا التردد والخجل يزول بعد جملتين أو ثلاث إذ تستغرق في التأمل لتتفحص قناعاتها الشخصية وتلقي نظرة إلى الوراء وأخرى إلى الأمام.
الكتابة هرب من السطحية بغرض التغيير
كيف بدأتِ علاقتك بالكتابة؟
إن إدراكي -المتأخر نسبيّاً- وجوب إمساك القلم للكتابة، كان بعد أن أنجبت طفلي عندما بلغت الثلاثين. إن ضرورة حمل القلم هي تسلية للنفس من المتاعب، وتبديد للحزن، فعندما كانت الحياة تسير في رتابة ودون قيمة، كنت أشعر غالباً بأن الحياة اليومية المملة على وشك أن تبلعني، ولم أكن راضية بالعيش في الرتابة والتفاهة في الوقت نفسه. وأثناء تلك الظروف، وذلك الكبت وعدم الحيلة لإيجاد المخرج، وانشغال أصدقائي وأقاربي بمتاعبهم الخاصة، وعدم استطاعتي اللجوء لأي شخص، لم يكن هناك أسهل من الكتابة.
أتذكر أول عنوان لمؤلفاتي القصيرة، الذي نُشر في ملحق الصحيفة التي كنت أعمل بها آنذاك، وكان (السطحية التي لا طعم لها). الكتابة تعني التغيير. في البداية كانت الكتابة تعني تسلية القلب من المتاعب، والشعور بالوحدة، وكانت المتنفس الذي وجدته لأفضي إليه بمكنونات صدري. وبالطبع فإن التنفيس عن النفس داخل الأدب يحتاج أيضاً إلى أسلوب فني، ويجب استخدام الطرق الأدبية لأعبِّر عن نفسي، وبالتالي كان على المرء أن يجد طريقة لذلك، فكنت أفكِّر وأدقِّق ذهاباً وإياباً، فصعدَت الكتابة درجةً أخرى أثناء عملية التفكير والتدقيق تلك، وهذه الدرجة هي إدراك المرء أن كتابته قد دخلت نطاقاً فنيّاً، وأنها دخلت مجالاً جميلاً، وهذا ما جعل السؤال لا يبدو بهذه البساطة.
أهمية الاعتراف بالاختلاف والتطابق
من خلال قراءة مجموعتك القصصية (العظام الراكضة) اكتشفنا ميلَكِ إلى فكر (عالم الانسجام الأعظم) (الوحدة العالمية)، وإلى مزج عناصر البيئة مع فكر الناس ومشاعرهم في التعبير عن مأساة الوجود البشري، وهذه المأساة يمكنها أن تؤدي إلى الحسن والجمال، ويمكنها في الوقت نفسه أن تؤدي إلى الشر والقبح، فكيف يكون فكرُكِ وتخطيطُكِ أثناء عملية الكتابة؟
 إنني لا أتفق كثيراً مع مقولة (عالم الانسجام الأعظم) هذه، فإذا غيَّرناها إلى (تطابق معرفة العالم) يمكنها أن تكون مضبوطة أكثر. هذه في الحقيقة مسألة الوجود الثقافي المتعدد والاحترام المتبادل. إن ما يشرحه الوجود المتعدد هو في الوقت ذاته قضية الاعتراف بالاختلاف والتطابق بين البشر والثقافات البشرية.
إن التأكيد على الاختلاف أو التأكيد على التطابق زيادة عن الحد، كلاهما ليس في مصلحة المُثل العليا لتعدد الثقافات والعوالم والوجود المتناغم للبشرية. إنني من قومية الويغور، لكنَّ قصَّتي القصيرة (العظام الراكضة) لم تركِّز على إظهار حياة قوميتي بوضوح، بالإضافة إلى نقص الخصائص القومية الإقليمية بها. وهناك سببان رئيسان لذلك: أولهما أنني من سلالة قوميتين أخريين، هما قومية خان، وقومية دونغ. والسبب الثاني، هو أنني لم أعِش منذ صغري وسط جماعات الويغور، وليس لدي معرفة جيدة بحياتهم.
إن ظهور القصة القصيرة (العظام الراكضة) أمام القارئ كان بالأحرى ظهوراً لمجموعة متنوعة من وجهات النظر والخبرات، فكان يظهر خلالها خلفية قوميات الخان والويغور والخوي، وكانت القضايا التي اهتمت بها هي مآزق الحياة، وروابط الصداقة والعلاقات الأسرية، وحوت أيضاً مسيرة روحية ذات طابع خيالي. ومن الصعب في الحقيقة أن نجد نقطة تركيز مستقرة. ولكني اكتشفت إحدى النقاط، وهي أن مجموع ما تحويه هذه القصص القصيرة هو: أن جميع الناس يريدون أن يحيوا حياة هادئة وسعيدة، ولكنهم لا يجدونها أبداً، ويفقدونها من غير حول لهم ولا قوة. لذلك ظللت أحاول معرفة سبب افتقاد الناس الحياة الهادئة السعيدة داخل القصص القصيرة، لأن هذا أيضاً يحيرني.
إن كل شخص منَّا يتمنى سعادته الشخصية، ولكننا لسنا سعداء دائماً، وتظهر لنا دائماً في حياتنا تلك الآلام والأحزان الكثيرة، فلماذا يحدث ذلك؟ داخل قصتي القصيرة تجري عملية البحث عن الإجابة، وعملية تمشيط أفكاري الخاصة أيضاً.
الصين تطبع 8 آلاف رواية سنوياً
هل تعتقدين أن الإبداع الأدبي للصين المعاصرة يعبِّر بصدق عن تغيرات القرن الحادي والعشرين التي تحدث للصينيين وللناس حولك أم لا؟ وما الفكرة المركزية الأكثر أهمية المتعلقة بهذا النوع من التعبير الأدبي؟
 إن إجابة هذا السؤال تحتاج إلى البناء على أساس كافٍ من قراء الإصدارات الأدبية المعاصرة للصين. إن حجم الإنتاج الأدبي الصيني المعاصر السنوي قد زاد جدّاً، فالروايات السنوية فقط تبلغ قرابة 8 آلاف رواية، أضف إليها الإصدارات الشهرية للدوريات الأدبية المائة في كل شهر.
 إن حجم الإنتاج كبير للغاية، لدرجة أن الوقت لن يكفي أبداً لقراءة بارقة من أعمال الكتاب الجديدة. وعلى أساس هذه النقطة، أعتقد أن قراءتي ليست كثيرة بما يكفي فقط، بل هي قليلة للغاية، لذلك فإن إجابتي بالتأكيد لن تكون شافية، وستكون فقط من بعض شعوري الشخصي الضحل.
ولكن بالحديث عامة، فمن الصعب في الحقيقة أن نرى مثل أعمال تولستوي الأدبية الاجتماعية الواقعية بطريقة الوصف البانورامية تلك. وبالحديث عن الفكرة المركزية لهذا النوع من الأدب، إنني أفكر، ماذا قدَّم هذا التغيير للناس؟ وهل الناس أكثر سعادة بسبب ذلك أم أنهم تحولوا إلى الفوضى الشاملة التي لا حيلة فيها؟ أم أن خسائرهم صارت أكثر؟ وما الذي علينا أن نتخلى عنه أثناء هذا التغير؟ وما الذي علينا أن نصرَّ على التمسك به؟
التأثير الاقتصادي للصين أقوى من الثقافي
حقق الاقتصاد الصيني طفرة على مستوى العالم، وأصبح للمنتج الصيني وجود في كل مكان، فهل سيحقق الأدب الصيني مثل هذا الوجود؟ وكيف يمكن أن يحققه؟ وما المصاعب التي تقف في طريق ذلك؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟
 دائماً ما كانت التنمية الاجتماعية تتكون من التقدم المشترك للجانب المادي، والمعنوي. وفيما يتعلق بهذا الصدد، طرح المجلس التمثيلي الوطني لجمعية الكتَّاب الصينيين، والمجلس التمثيلي للأدباء والفنانين الصينيين المنتهيان الآن، طرحا متطلبات، وهي: عندما يزدهر الاقتصاد لا يجب أن تنحدر الثقافة التي تخص المنتجات الروحية.
والواقع الحالي: إن نشر الأدب الصيني وتأثيره على حياة الناس في العالم أقل بكثير من تأثير المنتجات المادية الصينية المنتشرة في جميع أنحاء العالم. أعتقد أن أهم عامل لتحقيق التنمية الثقافية التي نأملها، هو وجود بيئة اجتماعية وثقافية جيدة، وعلى الناس في هذه البيئة أن يكون لديهم استيعاب واحترام للقيم الثقافية، كما يجب أن يتمتعوا بموهبة تذوق الجمال والاحتياجات الجمالية من الطراز الرفيع، واستعادة حيوية الثقافة الغنية، فقط في ظل تلك البيئة يمكننا إنتاج أدب حقيقي وثقافة حقيقية ذات جودة عالية، ثم يمكننا مناقشة قبولها ونشرها في جميع أنحاء العالم.
أعتقد أن هذا مشروع ضخم وهائل لتحسين البيئة الثقافية والاجتماعية وتطويرهما، ولا يمكننا الاستعجال فهذا يحتاج لإكماله إلى بعض الوقت، ويحتاج إلى جهود ومثابرة دون كلل من عدة أجيال.
الأدب والقارئ في الصين
ما أهم ما يميز الأدب الصيني الحديث عن باقي آداب العالم في رأيك؟
 أنا شخصيّاً أعتقد أن أكثر ما يميز الثقافة الصينية هو التطبيق العملي، مما يؤثر أيضاً على الأدب الصيني. إن الفلسفة الرئيسة للثقافة الصينية هي طريق الكفاءة السياسية، هذا المفهوم قوي للغاية، فقد أثَّر على الأدب الصيني. وبسبب ذلك الفكر الفلسفي العميق للأدب الصيني حول الخوض في أمور الحياة، أُشير هنا خاصة إلى أن الرواية الصينية تُعبِّر عن الواقع، والعادات والتقاليد والقضايا التي تتناولها هي قضايا إنسان علماني حقيقي. وقد وصل الأدب الصيني لمرحلة الأدب الحديث والمعاصر، ولقد اقتبس بعض الأدباء بعض الأساليب الأدبية الغربية، ولكنهم لا يدرسون الجذور، لأن طريقة التفكير ثابتة منذ آلاف السنين، يدققون في الواقعية، ولا ينخرطون في الميتافيزيقا.
 مشكلات الكاتب الصيني
باعتبارِك نائب رئيس رابطة كُتاب مدينة ينتشوان، في رأيكِ ما المشكلات التي سوف يواجهها الكُتَّاب في الصين؟ وكيف يمكن حلها؟
 يمكنني أن أتحدث عن هذه المشكلة من وجهة نظري الشخصية فقط، لدي رغبة شديدة في التعبير عن ذلك الواقع الصيني الذي يواجه العديد من التغيرات السريعة. إن الواقع الصيني يتمتع بنسيج غني وما زال يتوسع، أعتقد أن هناك العديد من الكُتَّاب مثلي من وقت لآخر يتولد لديهم الإحساس بالعجز، ويشعرون بالقلق بسبب ذلك. ولكن عند التفكير بهدوء سنجد أنه لا فائدة من القلق، لأننا يمكننا الآن أن نرى العديد من الأعمال التي كُتبت باستعجال وقلق سرعان ما تختفي دون أثر، مثل الرغوة.
ولحل تلك المشكلة يجب أن تهدأ وتفكر ببطء، وتبحث عن البقعة الأكثر حساسية، والمشاعر الأكثر عمقاً من الواقع، ثم تتخلل بداخلها، وتكتب الوجه الحقيقي، ونوعية تلك البقعة من الواقع.
المسلمون في الصين
يُعد المسلمون في الصين أقلية، وأنتِ كاتبة مسلمة، فهل تشعرين بوجود اختلاف في المجتمع الصيني أم لا، خاصة أنكِ كاتبة تحصلين على الجوائز والمناصب المهمة؟
  إن الصين لديها قولان مأثوران، هما: (إن الطيور على أشكالها تقع)، و(الشخص الذي لا ينتمي لقوميتي ليس مني). تُعد هاتان الجملتان واقعيتين، إلا أنني بذلت قصارى جهدي للقضاء على التأثير السلبي لهاتين الجملتين في حياتي وكتاباتي. كما أن وجهة نظري الثابتة بصفتي كاتبة أقليات قومية، هي أنه لا يمكنني تقليل متطلباتي في الكتابة، لأن انتمائي للأقليات القومية. فإن المقاييس الأدبية واحدة لكل الأشخاص، لا تختلف باختلاف القوميات والدول. فما دمت دخلت العمل الأدبي، يجب أن أضع نفسي في مستوى الأدب العالمي، ليس في مستوى أمة ما أو قومية ما. وأعتقد أن أي كاتب لديه الحق في هذه المطالب بغض النظر عن عرقه أو دينه. وبصفتي كاتبة مسلمة أود فقط أن أقول: إن كل ما نحتاجه هو فَهْم الآخرين ومعرفتهم، ليس في الصين فقط بل في العالم كله.
لكن كيف يمكننا فَهْم الآخرين؟ لا يجب أن نذهب أولاً ونطلب من الآخرين، بل يجب أن نتحدث مع أنفسنا أولاً، ثم نقوم بالأشياء النافعة قدر المستطاع وفقاً لمتطلبات المسلمين الحقيقيين، وندع الآخرين يرون ويفهمون حياة المسلمين الحقيقيين وقلبهم وعاطفتهم وسلوكهم.
آشه والأدب العربي
هل قرأتِ من قبل أعمالاً لكتَّاب عرب، ولمن قرأتِ؟ وكيف يتعامل الكتَّاب الصينيون المعاصرون مع الأدب العربي؟ وما مدى تأثير الأعمال الأدبية العربية التي تحولت إلى اللغة الصينية من اللغات الأخرى؟ وهل لاقت اهتماماً كبيراً أم لا؟ وكيف يمكن زيادة تأثيرها؟
 عندما كنت صغيرة قرأت كتاب (ألف ليلة وليلة)، وبعد أن بدأت الكتابة الأدبية قرأت (رباعيات) عمر الخيام، وكتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع، والمجموعات الشعرية (وحدتي حديقة مزهرة) للشاعر السوري أدونيس، بالإضافة إلى أعمال الكاتب المصري نجيب محفوظ، كما قرأت مجموعة القصص القصيرة (جراحة الروح) لكاتبة إيرانية معاصرة. أما فيما يتعلق باللغة العربية فهي إحدى لغات العالم ذات التأثير الكبير، فقد ظل تأثير الأدب العربي مرتفعاً في الصين، إلا أن الأدب العربي ليس مثل الأدب الأوروبي والأمريكي الذي يقرأه القراء الصينيون ويدركونه على نطاق واسع. فأما عن كيفية زيادة تأثيره، فأنا لا أفهم جيداً السياسة الثقافية التي تتبعها مصر أو الدول العربية، لكنني أعتقد أن هذه القضية قد طُرحت آنفاً، فشأنها شأن كيفية زيادة تأثير الأدب الصيني في العالم، فهناك نقاط مشتركة، وهي أنه يجب على الحكومة إيجاد بيئة اجتماعية جيدة تتناسب مع الإبداع الأدبي، وأن تحترم وتدعم تطور الأدب، وأن توفِّر المساحة والوقت اللازمين لتطور الأدب، ولا يجب التسرع في الأمر.

ذو صلة