مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

إشكاليات دراسة اللهجات العربية

يعد تدوين اللهجات أمراً شديد التعقيد، ذلك لأن الأساس في اللهجات أنها منطوقة، وغير مكتوبة. ومما يزيد من المشكلات الناجمة عن محاولة التدوين أن المسألة معها تتجاوز عملية التدوين لتصبح عملية وصف لطرق النطق نفسها (النبر التنغيم الضغط الإطالة الوقف الإيماءات.. إلخ)، ومصدر هذه المشكلات في تدوين العامية غالباً أن العامية بوصفها مستوى منطوقاً خُلقت لتكون كذلك، أما مسألة تدوينها فيمثل مرحلة ثانوية. وقد انعكست هذه الثانوية في تأخر دراستها على نحو علمي على أيدي اللغويين العرب، وهو ما يعود إلى أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، هذا على الرغم من وجود اجتهادات وصفية قليلة ظهرت على استحياء في تراثنا اللغوي القديم. فدراسة العاميات العربية بشكل عام بدأت مع المستشرقين، أما محاولات وضع طريقة لتدوين العامية فقد بدأت متأخرة بعض الشيء، كل هذا رغم أن المجمع اللغوي بالقاهرة عند إنشائه أقر عام 1932 قراراً ينص على (ضرورة دراسة اللهجات العربية على اختلافها دراسة علمية منظمة). وهو الأمر الذي أضفى شرعية على دراسة اللهجات العربية من قبل المتخصصين، خصوصاً مع تشكيل المجمع لجنة اللهجات، كي تنهض بأعباء هذه المهمة.
يسعى المقال الراهن إلى الكشف عن أهم الإشكاليات التي تعوق دراسة اللهجات، إلى جانب الكشف عن الآليات التي يمكن -من خلالها- تحول اللهجة إلى لغة، مكتسبة بهذا التحول كل خصائص اللغة. ويمكن أن نعكس الأمر قليلاً، لنقول: ما الذي يعوق تحول اللهجة لتصير لغة؟
وبغض النظر عن الصيغة التي يمكن بها طرح التساؤل، بمعدوله أو مقلوبه، فإنه يمكن أن نضرب أمثلة على ذلك، بأن نقول لماذا كان العرب قديماً يطلقون مصطلح لهجة على عدد من ألسنة القبائل، في حين أطلقوا على لسان قريش مصطلح لغة؟ هذا على الرغم من عدم وضوح الفروق الدقيقة الحديثة لديهم بين اللغة واللهجة أو اللسان أو الحرف. وحديثاً، يطلق اللغويون مصطلح لهجة على كلام البدو، والصعايدة، مثل لهجة أسيوط ولهجة المنيا ولهجة سوهاج وغيرها، في حين يطلقون مصطلح لغة على كلام أهل القاهرة، فيقولون اللغة العامية، أو العامية المصرية، مع أن المقصود هو العامية القاهرية. والأمر نفسه مع استخدام مصطلح اللغة النبطية في شبه الجزيرة العربية، في مقابل إطلاق مصطلح اللهجة على العديد من كلام قبائل شبه الجزيرة العربية. ويمكن حصر أسباب ذلك في سببين رئيسين، أولهما يتمثل في القدرة على الانتشار والتداول خارج حدود نطاق استخدامها، ومن ثم فهمها والتفاعل معها، أو التعاطي معها، أي أن الأمر يتمثل في قدرة اللهجة على تجاوز نطاقها المحلي، سواء القبلي أو الجغرافي، انتشاراً وتداولاً وفهماً. في حين يتعلق ثانيهما بالتدوين.
(1)
لم تكن للهجة قريش أن تتحول إلى لغة إلا بعدما تحقق لها من الانتشار والذيوع ما جعلها جديرة بأن تصير لغة. فلقد كانت في الأساس لهجة أو لساناً أو حرفاً. غير أنها صارت مركزاً أدبياً، إذ بها تم جمع الشعر العربي من فترة ما قبل الإسلام، فصارت لغة كتابة لهذا الشعر، وتدوين له. كما أنها صارت -كذلك- مركزاً دينياً، بعد أن تم جمع القرآن الكريم، واعتماد لهجة قريش لهجة رسمية ومرجعية، حال الاختلاف في الألسنة أو الروايات اللغوية، تحقيقاً للقاعدة التي وضعها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لزيد بن ثابت والرهط القرشيين، بقوله: (إذا اختلفتم في شيء فردوه إلى قريش). من هنا اكتسب لهجة قريش مكانة دينية، جعلتها أكثر انتشاراً وتداولاً، بل صارت مفهومة خارج نطاقها المحلي، فصارت مؤهلة لتكون لغة وليست مجرد لهجة.
وبقدر ما أكسب الانتشار والذيوع لهجة قريش مكانة ومركزية لغوية قديماً، فإن توافر الخاصية نفسها، أعني خاصية الانتشار والتداول والذيوع والفهم، أكسب العامية القاهرية القدرة على أن تتحول من كونها لهجة لتصير لغة، للدرجة التي تجعلنا عندما نسمع مصطلح العامية المصرية، ندرك أن المقصود لهجة القاهرة، دون غيرها من اللهجات المصرية. لقد اكتسبت العامية القاهرية هذا الانتشار خارج حدود القاهرة، وفهم مفرداتها ومعانيها، بسبب ما تحقق لها من حضور مصري وعربي من خلال وسائل التعليم والإعلام والدراما والسينما والأغاني المصرية، مما جعلها تحظى بمكانة ثقافية سمحت لها بالانتشار والذيوع، والتداول خارج حدود القاهرة جغرافياً، بل أصبحت تحظى بالفهم والتفاعل معها، دونما تعثر أو غموض. وعلى هذا النحو أصبحت هي المستوى المعياري المفهوم، داخل الكيانات الجغرافية المتعددة في مصر، فهي ليست مقصورة في تداولها أو فهمها على أبناء القاهرة فحسب، بل نجدها كذلك في الوجهين البحري والقبلي في مصر، رغم أن اللهجات المحلية الأخرى لم تكن منتشرة أو مفهومة بالقدر نفسه خارج حدود نطاقها الجغرافي، أو نطاق أبنائها المتحدثين بها. وبالقدر نفسه من التداول والانتشار والفهم تجاوزت عامية القاهرة حدود مصر، لتصير منتشرة ومفهومة في كل أنحاء العالم العربي. وما قيل عن لغة قريش أو العامية القاهرية/ المصرية، يمكن أن يقال عن اللغة النبطية، التي صارت -بفضل مكانتها الأدبية في شبه الجزيرة العربية- لغة متجاوزة حدود نطاقها الجغرافي، أو نطاق متحدثيها، فاكتسب الشعر النبطي شيوعاً وانتشاراً وفهماً، ليس في نطاقه الجغرافي فحسب، بل خارج نطاقه، للدرجة التي جعلت الدكتور طه حسين في أوائل ثلاثينات القرن العشرين، وفي محاضرته القيمة، بعنوان (الحياة الأدبية في جزيرة العرب)، ينتهي إلى أن الشعر النبطي ما هو إلا امتداد للشعر العربي القديم، سواء في لغته أو صوره أو بلاغته أو موضوعاته.
(2)
لعل من الأمور التي تميز اللغة عن اللهجة، هو ما يتمثل في ثاني السببين، أعني قدرة اللغة على التدوين، من حيث توافر قواعد كتابية معينة، وهو ما يتوافر مع اللغة، في حين تفتقد إليه اللهجات. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك عدداً من محاولات بعض اللغويين العرب لتدوين اللهجات العربية، وذلك باقتراح أصحابها طريقة أو طرقاً معينة لتدوين اللهجات العامية. ومما تنبغي إليه الإشارة أن دراسة اللهجات العامية العربية بدأت مع المستشرقين في القرن الثامن عشر وما تلاه، كتلك البحوث والدراسات التي قدمت عن اللهجة المصرية من قبل الإنجليزي (لين)، والألماني (شبيتا) و(ليتمان) والإيطالي (نالينو)، والروسي (نفروتسكي). فمن الدراسات ما قدمه الإنجليزي (ميتشل)، بعنوان: (مقدمة في العامية العربية في مصر 1956)، والباحث الأمريكي (هاريل)، ببحثه المعنون بـ(أصوات العامية في مصر 1957). كما قدمت دراسات عن اللهجات العربية، ففي سوريا درس الفرنسي (كانينتو) لهجتي (تدمر) و(دمشق)، ودرس عمانوئيل ماتسون اللهجة اللبنانية في بحث عنوانه (دروس صوتية في اللهجة العامية في بيروت)، ودرس الألماني (ماكس لور) لهجة القدس، ودرس (مايسنر) اللهجة العراقية بدراسته عن (لهجة بغداد). أما المستشرق الروسي (برازين) فقد درس لهجات الجزيرة، وما بين النهرين، كما قدمت دراسات في هذا السياق عن لهجات الحجاز واليمن ونجد، وشمال أفريقيا، كلهجة الجزائر والمغرب الأقصى، وتونس واللهجة الطرابلسية. وقد خصص المستشرقون مجلات لدراسة اللغات الشرقية وآدابها، كتلك المجلة الألمانية التي أنشأها (هارتمان) عام 1900. هذا إلى جانب العديد من المؤتمرات التي عقدت في العديد من الجامعات والمعاهد الأوربية حول دراسة العامية العربية أو دراسة إحدى لهجاتها.
كما أسهم العلماء العرب الذين درَّسوا اللغة العربية (الفصحى والعامية) في المعاهد والجامعات الغربية، ببحوثهم ودراساتهم في الاهتمام باللهجات العربية. فكتب محمد عياد طنطاوي الذى درَّس في الجامعة الإمبراطورية ببطرسبورج بروسيا عن (رسائل في العربية العامية)، وكتب ميخائيل الصباغ السوري -الذي درَّس العربية في باريس- (اللغة العربية العامية في مصر والشام)، وقدم ميخائيل الفغالي- الذي درَّس العربية في جامعة بوردو الفرنسية بحوثاً في اللهجات العربية، مثل (لهجة كفر عبيدا)، وهي قرية لبنانية.
أما اللغويون العرب فقد ساهموا منذ أربعينات القرن الماضي وخمسيناته بدراساتهم في هذا المجال، خصوصاً مع سفر عدد منهم في بعثات إلى الجامعات الأوروبية، فحصلوا على درجات الماجستير والدكتوراه عن دراسة لهجة من اللهجات العربية. فالدكتور إبراهيم أنيس نال درجة الدكتوراه من جامعة لندن عن (لهجة القاهرة)، ثم تتابعت دراساته بعد ذلك عن اللهجات مثل (في اللهجات العربية 1952)، ودرس تمام حسان (لهجة الكرنك)، و(لهجة عدن)، ونال بهما درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن، كما درس عبدالرحمن أيوب (لهجة الجعفرية) و(لهجة النوبة)، ونال بهما الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن. كما قدم عبدالحميد طلب دراسته (من لهجات الجزيرة وآدابها في السودان 1958)، ونال بها درجة الدكتوراه من آداب القاهرة. وقد تزامنت هذه الدراسات مع اللجنة التي شكلها المجمع اللغوي لدراسة اللهجات العربية في الأقطار العربية المختلفة. ثم توالت بعد ذلك الدراسات العربية في هذا المجال، كدراسة الدكتور عبدالمنعم سيد عبدالعال عن (لهجة شمال المغرب: تطوان وما حولها 1968)، ودراسة عبدالعزيز مطر عن (لهجة البدو 1981)، ودراسات عبدالصبور شاهين: (دراسات لغوية 1976)، و(في التطور اللغوي).
محاولات تدوين العاميات العربية
تمثلت أولى المحاولات العربية الجادة لتدوين العامية العربية عامة والمصرية خاصة في مجموعة المقالات التي نشرها الدكتور خليل عساكر بمجلة المجمع اللغوي بالقاهرة، بدءاً من العدد الثامن. وكانت هذه المقالات بمثابة اقتراح تقدم به الدكتور عساكر بوصفه خبيراً بلجنة اللهجات بالمجمع، وذلك بهدف التوصل إلى طريقة موحدة لكتابة نصوص اللهجات العربية الحديثة بحروف عربية. لقد جاءت هذه المحاولة تنفيذاً للدعوة التي وجهها المجمع لأعضائه بضرورة (أن ينظم المجمع دراسة علمية للهجات العربية في الأقطار المختلفة). وكتب الأستاذ عباس محمود العقاد في مجلة المجمع أيضاً بعض المقالات التي تحث الهمم على أهمية دراسة اللهجات. من هنا جاءت محاولة الدكتور عساكر، كأول محاولة عربية جادة، لتكون بمثابة أول تطبيق عملي، فقدم مقترحه في الثلاثينات من القرن العشرين بمجلة المجمع بعنوان (طريقة لكتابة نصوص اللهجات العربية الحديثة بحروف عربية)، الذي حاول -من خلاله- أن يحل المشكلة الرئيسة المتمثلة في الطريقة التي سيختارها للكتابة، ما بين الطريقة الصوتية، أي تلك التي تحافظ على الطريقة التي تُنطق بها الحروف، بصرف النظر عن مخالفتها للشكل الكتابي المألوف، بمعنى أن القاف عندما تنطق همزة مثل (قال) تكتب (آل)، وهو الأمر الذى سيُحدث لبساً لدى القارئ، أو الطريقة الثانية المتمثلة في الاستجابة للطريقة الكتابية، أي يستجيب للطريقة الصوتية الاشتقاقية، بمعنى أنه يختار كتابة الحرف العامي بالطريقة الفصحى. ثم تأتي -بعد ذلك- المحاولة القيمة للدكتور عبدالمنعم سيد عبدالعال في كتابه (لهجة شمال المغرب: تطوان وما حولها 1968). ويمثل د. عبدالعزيز مطر في (لهجة البدو: في الساحل الشمالي لجمهورية مصر العربية 1981) المحاولة الثالثة، بالطريقة التي اتبعها في تدوين النصوص البدوية، التي تعد امتداداً لمنهجية د. عساكر، مع وجود اختلافات طفيفة فرضتها طبيعة اللهجة المدروسة. وتتوقف محاولة د. عبدالصبور شاهين في كتابه (دراسات لغوية 1976) عند التحولات الصوتية لبعض الحروف في الكلمات الدخيلة، باحثاً في الإمكانيات التي يمكن أن يتحول إليها كل حرف. فالباء قد تتحول إلى واو أو فاء أو ميم أو ضاد أو كاف، وهكذا مع بعض الحروف الأخرى. هذا إلى جانب محاولة كاتب السطور (مشكلات وطرق تدوين العامية المصرية 2009).
إن كل ما سبق يفرض علينا ضرورة الوقوف بالتفصيل عند هذه الجهود بغية توحيد الجهود العربية لوضع أجرومية عربية لهجية تنطوي تحتها اللهجات العربية الكثيرة والمتنوعة والثرية.

ذو صلة