مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الإبداع ..وهبوب العصر (٥)

تحولت الهبوب في هذا العصر لرياح عاتية.
كل شيء أصبح مشكلة.
العقلية تعيش حياة مقلقة.
الكل يقول شعراً.
الكل يكتب نثراً.
الكل مثقف.
افتقدنا للكاتب الرمز.
افتقدنا للمثقف الرمز.
العلم أصبح مبعثراً.
والثقافة أصبحث مشكلة، بل كما قال تيري إيغلتن في كتابه (الثقافة): إنها أمر أشد خطورة بكثير مما نعتقد، وهي أشد خطورة مما يعتقد الناس، فأقنعتها أصبحت متعددة ومتلونة، منها السلبي ومنها الإيجابي.. والسلبية فيها أكثر من الإيجابية في عصر يوحي بكل ذلك، ومن سلبيتها أنها أصبحت سلاحاً من أسلحة العولمة. (1)
إن (الثقافة) في هذا العصر أصبحت (كالموضة)، ألعوبة يلعب بها من يشاء، ولذلك فهي تظهر وتبهر ثم تختفي فجأة، وكأنها ألعاب أطفال (تومض مرة ثم تنطفي)، وهنا لم نجدها تلقى التقدير المستحق كالثقافة التي كان جيل ما قبلنا يتداولونها، تلك التي تنطلق بثبات وبعلم، وترسخ في العقول، ولذلك تخرج فيها العلماء الذين أثروا المكان واحتلوا المكانة.
إننا إن نظرنا لثقافة عصرنا الحاضر فسنجدها متواضعة، بل لحقها دمارٌ هائلٌ مع ظهور التكنولوجيا الحديثة التي دمّرت كل شيء، حتى تعدّت على الأخلاق والعادات والتقاليد، وذلك بسبب تحوّل العالم إلى شبه قرية واحدة، وتحكم العولمة وآثارها في كل ذلك، وهي آثار بطبيعة الحال سلبية أكثر منها إيجابية. (انظر كتاب: فخ العولمة - الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية).
إن من يَدَّعي الثقافة في هذا العصر لن يملك (2):
- عملاً تراكمياً من العمل الفني والذهني.
- ولا صيرورة يحصل بها على الارتقاء الذهني.
- ولا شعوراً بالتمسك بالعادات والتقاليد المجتمعية، بقدر ما يحاول النفور منها، بل محاولة الطعن فيها، وشتم من ينتمي إليها.
- التبعثر المفهومي للثقافة ومن ينتمي إليها.
وإذا كنا كمجتمع نعاني كل ذلك، بل نشعر به، فكيف (بالمبدع)؟ إنه يعاني من رياح عاتية لا يستطيع السلامة منها، بل لا بد من معايشتها، ولذلك فهو يعيش قلقاً بيناً، وهذا الأمر قد جعلنا نفتقد للقصيدة الرمز، وللشاعر الرمز، وللكاتب الشمولي.
كما افتقدنا اللغة الجزلة التي تحمل المعاني الفضيلة التي تبني ولا تهدم، حتى وإن حصلت فهي نادرة بين غث أشبه بالبحر المتلاطم الأمواج.
إن المبدع في العصر الحديث، وهو أمام كل ذلك؛ أصبح يعاني، وهو مع هذا التطور الحضاري والمادي، يعاني مزيجاً من الرهبة والإعجاب (3).
الرهبة، من التأثيرات الكارثية لهذا التطور وتهديده بجرف القيم والأخلاق، والإعجاب بما يحصل من بساطة في المجتمع وتعدي المعرفة الحدود، والتعرف على كثير من المعارف والعلوم من خلال ضغطة زر عبر الشبكة الذكية التي تربط العالم.
ولكن مع ذلك يشعر بقلق دائم، خصوصاً إذا كان مبدعاً حقيقياً، إذ ترنو به نفسه ليبحث عن ركن يأوي إليه ليجد فيه من الالتزام الديني والأخلاقي والمجتمعي ليعيش في مجتمع متكامل متحاب متماسك.
إنني أعتقد أن تلك أمنية قد تتحقق فيما إذا التزمنا بثوابتنا أمام هذه التيارات العاتية الآتية من الشرق ومن الغرب، وبخاصة التي تسعى بل تحث الخطى لإضاعتنا وضياعنا، فالثقافة الحديثة موسومة ببدائل فاشلة عن العقل والروح والعلم، ونرجو ألا تتحقق في مجتمعنا، وإن كانت بوادرها قد ظهرت وللأسف، ومن هنا، فإن كل ما يحفظنا التمسك بديننا وتقاليده، فهو خير دين (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، والتمسك بعاداتنا وتقاليدنا التي لا تضعف ديناً ولا تزرع كفراً، قدر ما تحث على الخلق الرفيع الذي يتماشى مع الحق ويقف ضد الباطل.


المراجع:
(1-2) انظر: كتاب الثقافة. تيري إيغلتُن. ترجمة وتقديم لطيفة الدليمي، الصفحات على الترتيب: 29،9، 35. الكتاب صدر عن مدى للإعلام والثقافة والفنون (بغداد وبيروت ودمشق)، ط1، 2016م.
(3) انظر: الغلاف الأخير لكتاب المقدِّمات التاريخية للعلم الحديث. توماس جولد شتاين. تصدير إيزاك أسيموف. ترجمة أحمد حسان عبدالواحد، صدر ضمن سلسلة (علم المعرفة) رقم 296، 2003م.

ذو صلة