مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

هاشم محمد البغدادي.. فارس حروف لغة الضاد

 

 

في ربيع العام 1393هـ الموافق 1973م ترجل الفارس الأخير عن صهوة جواده الأثير ليرحل إلى عالم الخلود، وترك أحرفه حزينة خوفاً من المجهول، حياة قصيرة لرجل أدرك أن عليه عبء مدرسة عمرها ألف سنة، فكيف السبيل للحفاظ على إرث قرون عديدة ولمن ستؤول تلك التركة الغنية، إنه أبو راقم الأستاذ الخطاط هاشم بن محمد بن الحاج درباس القيسي البغدادي عميد الخط العربي وفارس حروفه الأنيقة.
ولد الخطاط هاشم بحي خان اللاوند برصافة بغداد عام 1335هـ الموافق عام 1917م، بدا منذ طفولته مغرماً بالخط العربي وميالاً لتعلم فنونه، فأخذه عن شيخه الملا عارف الشيخلي مدة من الزمن، وتتلمذ أيضاً على يد الحاج علي صابر، وبعد ذلك بدأ بمراجعة الملا علي الفضلي، وقد منح الإجازة الأولى في الخط العربي عام 1363هـ/ 1943م.
كان هاشم البغدادي تواقاً لتعلم الخط العربي والاستزادة من معرفة فنونه وأسراره، ولأن موهبته الفطرية وبراعته وإصراره على التعلم جعلته لا يكتفي بما أخذه عن شيوخه ومعلميه في بغداد؛ فقد شد الرحال إلى مصر وانتسب هناك في معهد تحسين الخطوط بالقاهرة، ولما عرض على أساتذة المعهد نماذج من خطوطه وإجازته قررت إدارة المعهد مشاركته في الامتحان للصف النهائي بالمعهد، فحاز البغدادي الدرجة الأولى بامتياز، وقد أخذ إجازتين في الخط العربي، الأولى من الخطاط المصري الشهير سيد إبراهيم، والثانية من الخطاط محمد حسني في نفس العام، وهو العام 1364هـ / 1944م، وقد طلبت منه إدارة المعهد البقاء للتدريس في المعهد، فأبى وعاد إلى بغداد، وقام في العام 1365هـ / 1946م بافتتاح مكتب الخط في بغداد، وبعد فترة قصيرة سافر إلى إسطنبول للتعرف على الخطاطين الأتراك، وكان قد تعرف على الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي، فحصل منه على الإجازة مرتين، الأولى عام 1370هـ / 1950م، والثانية عام 1372هـ / 1952م، ثم عاد إلى بغداد وعين خطاطاً في المديرية العامة للمساحة، بعدها انتقل عام 1380هـ / 1960م ليرأس فرع الخط والزخرفة في معهد الفنون الجميلة ببغداد.
 استطاع هاشم البغدادي بموهبته وأناته وصبره أن يعيد أمجاد مدرسة الخط العربي إلى حاضرتها الأولى بغداد، فهو وريث ابن مقلة، وابن البواب، والشجري، والمستعصمي... وغيرهم من الخطاطين البغداديين الذي أسسوا مدرسة الخط العربي في بغداد إبان العصر العباسي.
 خرج هاشم بنتائج مذهلة من خلال مزجه بين مدارس الخط العربي الثلاث، البغدادية والدمشقية والتركية، ليبتكر ما يشاء من حركات الخطوط، ضارع من خلالها أكبر وأقدر الخطاطين يومذاك مع التزامه الشديد بقواعد وأصول هذا الفن.
إن براعة هاشم الخطاط لم تكن في الخط وحده، فهو خطاط مبتكر، فقد كان يصمم تراكيب جميلة للوحاته الخطية، وحافظ على نظام السطر، وعنى عناية كبيرة بالحروف والمقاطع. لقد أسس هاشم مدرسة فنية جديدة في الخط العربي، كان من أهم أساليبها الالتزام الصارم بقواعد الخط من جهة ومحاولة إعطاء صورة متحررة للحروف العربية في اللوحة بطابع إيقاعي فريد زاد من جمالية الخط ورشاقة الحرف العربي التي عرف بها.
أجاد هاشم كافة الخطوط العربية، ولكنه اهتم بخطوط النسخ والثلث والتعليق والديواني بنوعيه، والإجازة والرقعة، وكانت له تجارب مهمة في الخط الكوفي.
 لقد أنجز في حياته القصيرة أعمالاً غاية في الأهمية، فمازالت آثاره باقية حتى الآن في عدد من مساجد بغداد، منها خطوطه في جامع الحاج محمود البنية بكرخ بغداد، والتي نقشت على الحجارة بخط الثلث، وجامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني بمحلة باب الشيخ برصافة بغداد، وجامع الحيدر خانة في شارع الرشيد، وجامع المرادية في محلة الميدان برصافة بغداد، وجامع الوزير بالقرب من قشلة بغداد. وصمم هاشم خطوط النقود لدول عربية، منها: العراق وتونس والمغرب والسودان، وأشرف على طباعة مصحف وزارة الأوقاف العراقية في ألمانيا الذي كتبه الخطاط محمد أمين الرشدي سنة 1236هـ. وألف كراسة بخط الرقعة عام 1946م، لكن أفضل آثاره العلمية التي تركها هي كراسته الشهيرة (قواعد الخط العربي) التي لم يستطع خطاط آخر أن يأتي بمثلها، فهي كانت وما تزال أفضل كتاب لتعليم فن الخط العربي على الإطلاق. نشر الأستاذ هاشم هذه الكراسة سنة 1381هـ / 1961م، وقد احتوت على تعليم عدد من أنواع الخط العربي، منها: الديواني والجلي الديواني والرقعة والإجازة والثلث والنسخ والفارسي، كما ألف كتاب طبقات الخطاطين، وقد طبع عام 2008. وقد أقام هاشم عام 1964م معرضاً لأعماله الخطية، وكان هذا المعرض الوحيد في مسيرته الفنية.
لقد أثمرت حياته القصيرة إنجازات كبيرة ظلت شاهداً على موهبة الرجل وتفانيه في عمله، وقد عاش هاشم جل تلك الحياة للخط العربي، فحروف لغة الضاد كانت الهواء بالنسبة له، واستحق أن يكون عميداً للخط العربي بامتياز، وفي ليلة الثلاثين من نيسان عام 1973 أصيب بجلطة قلبية، وتوفي على إثرها. وقد قال في وفاته الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي (ولد والخط في بغداد ومات فيها).
عبر هاشم البغدادي في خطه عن التناغم التام بين الحروف في تكويناتها، رغم أن بعض تكويناتها فيها بعض الصعوبة في القراءة، خاصة من قبل المتلقي الذي ليست لديه دراية بفن الخط العربي، لكن هاشماً لم يمتلك الموهبة فحسب، لكنه امتلك الجرأة الفنية إن صح لنا أن نعبر في تكوين لوحات غاية في الاتساق والتناظر، وبرع في تضمين تكويناته ذلك التمازج الرائع الذي استطاع أن يولده بخبرته بين مدارس الخط العربي المختلفة.
لقد أنتج في فترة ستينات القرن الماضي روائع خطية ستبقى خالدة مدى الدهر، ذلك أن تلك الفترة كانت فترة نضجه الفني، رحم الله هاشماً لما أسداه من خدمة جليلة لكتاب الله العزيز القرآن الكريم وللأمة الإسلامية.

 

 

ذو صلة