مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

المومياء.. رائعة «شادي عبد السلام»

 

عصر ذات يوم في عام 1871 كان الشقيقان محمد وأحمد عبد الرسول (من قبيلة الحُرَبات أو الحروبات) يرعيان أغنامهما بالقرب من سفح جبل في قرية القرنة على الساحل الغربي من النيل مقابل مدينة الأقصر (طيبة الفرعونية) الآثارية الشهيرة. ومع حلول الغروب سقطت عنزٌ في بئر فتدلى محمد في البئر مستعيناً بحبلٍ ربطه في وسطه ومصباحٍ في يده وعندما وصل القاع وجد ممراً منحوتاً في الصخر يفضي إلى قاعة فيها العديد من توابيت المومياء.  
حافظت عائلة عبدالرسول على كتمان سر هذا الكشف، إذ كان يمثل منجماً يدر النقود عليها جراء بيع الحُلي الفرعونية والأواني والتماثيل الصغيرة ووثائق ورق البردي وغيرها.
مع تسرب هذه القطع إلى السوق المصرية (ومن ثم الأوروبية) تنبه علماء «المصريات» والآثار الفرعونية مثل مارييت وماسبيرو وبروجش وأحمد كمال (أول عالم آثار ومصريات مصري) وغيرهم عن طريق ترجمة النصوص بالدرجة الأولى ومقارنة الخصائص، أن هذه الآثار تخص أُسراً فرعونية حاكمة لم تكتشف مقابرها بعد! وبذلت السلطات وعلماء الآثار جهوداً كبيرة للوصول إلى لصوص الآثار هؤلاء (عائلة عبد الرسول) دون جدوى وبعد عشر سنوات تم القبض على أحمد عبد الرسول ووضع في الحبس قيد التحقيق ثم أُفرج عنه بعد شهرين لعدم وجود أدلة أو شهادات تدينه.
إثر هذه الواقعة ظهر خلاف بين أفراد عائلة عبدالرسول ما بين مؤيد لكشف الخبيئةk للسلطات ورافض لهذا والاستمرار في نهبها والعيش من ورائها. وفي النهاية ساد الرأي الأول فتم الكشف عن الخبيئة وأعلن مدير الآثار المصرية جاستون ماسبيرو في خطاب عالمي رسمياً اكتشافاً استثنائياً يضم 44 مومياء. وتم استخراج هذه المومياوات بعد أيام خلال 48 ساعة.
ولعائلة عبد الرسول الفضل أيضاً في الكشف عن مقبرة رمسيس الثاني. ورفضوا المكافأة بعشرات الأفدنة. وكان طلبهم أن يسك جنيه إنجليزي ذهب توضع فيه صورة عبدالرسول مثل ملكة بريطانيا، وتم سك عملة باسمه يوجد منها نسخة بالمتحف البريطاني.
من واقعة الخبيئة هذه استوحى المخرج المصري الراحل فيلمه الروائي الأول «المومياء» أو «يوم أن تُحصى السنين» 1969.
يبدأ الفيلم بلقطة للنص الفرعوني:
«يا من تذهب ستعود،
يا من تنام سوف تنهض،
يا من تمضي سوف تبعث،
فالمجد لك،
للسماء وشموخها،
للبحار وعمقها.»
على خلفية جزء علوي من تابوت لمومياء ثم تنزل العناوين ثم المشهد الافتتاحي لاجتماع صغير دعا إليه «جاستون ماسبيرو» وحضره «أحمد كمال» وآخرون يحدثهم عن تسرب قطع آثارية تعود للأسرة الفرعونية الحادية والعشرين التي لم تُكتشف مقابرها بعد وأن الشخص المجهول (اللص) موجود في القاهرة.
يليه المشهد الرئيس عن مراسم جنازة «سليم» زعيم قبيلة الحربات ودفنه. وإطلاع العم نجليّ الراحل ونيس وشقيقه الأكبر على سر الخبيئة. يرفض الابن الأكبر من البداية بشدة ويدفع حياته ثمناً. أما «ونيس» فيعيش صراعاً يحسمه فيذهب إلى «أحمد كمال» في السفينة الرسمية ويكشف له سر الخبيئة. وعلى جنح الظلام قريباً من الفجر يتم نقل توابيت المومياء إلى السفينة في موكب مهيب. 
تطور الصراع الداخلي لدى «ونيس» يحدث بذكاء من السيناريست (شادي) وكاتب الحوار (بالفصحى السهلة) «علاء الديب»! في البداية يكون «ونيس» مصدوماً بالسر الذي باح له العم به ثم يأنف من سرقة ثروة الموتى وبيعها ولكنه يعرف أن هذا مصدر عيش القبيلة ورفاهيتها. ثم يتكشف له صراع بين شباب القبيلة ممثلين بثلاثة من أبناء عمومته وشيوخ القبيلة على اقتسام الكنز المخبوء! ولكن لحظة التنوير لديه عندما يخبره العالم الغريب أن الأفندية (أحمد كمال ومساعديه) يسمون أصحاب المقابر بالأجداد! هنا يصل الصراع ذروته ولكنه يُحسم عندما يخبره «مراد» بمقتل أخيه الأكبر. فيكشف سر الخبيئة للأفندية.. ولكنه يعاني من جراء فضحه سر قبيلته فيجري هائماً مذهولاً.
شادي عبدالسلام مفتون بالتاريخ الفرعوني، (ولذا لقّبه محبوه والنقاد بالفرعون؛ فرعون السينما المصرية. ولكن البعض أطلق ذات اللقب على عمر الشريف!) وهنا يقدم قصة بسيطة لا تعقيد فيها، بأسلوب سينمائي رفيع، وسرد فيلمي متميز. ومع أن الحبكة أقرب للقصة البوليسية: البحث عن لصوص آثار. إلا أن الفيلم أشبه بالحلم! فهو وإن كان بالألوان الطبيعية إلا أن الألوان فيه باهتة على الأغلب خصوصاً في مشاهد الجبل! وساهم في هذا الموسيقى الغرائبية المترقبة للإيطالي «ماريو ماشيمبيني».
ومع أنه متخصص بالعمارة من كلية الفنون الجميلة إلا أن «شادي» رسام، ومصمم مناظر، ومهندس ديكور، ومصمم أزياء (هو مصمم أزياء الفيلم) ولذا اهتم بالصورة من كل جوانبها وتكوينها وتوازنها وإيحائها واستخدام تباين لون العمامة والثوب الأبيض مع الرداء الأسود فوقه.
بل هو مفتون أيضاً بجعل الحركة من مكونات الصورة فلا يختل توازنها بفعل الحركة وخصوصاً الحركات المركبة! أحد الأمثلة: عندما يمشي «ونيس» خلف الكثيب الأصفر بعكس منحدره متابعاً تحية فرقة الشرطة لوفد الآثار فيكاد يختفي ولكنه يرتقي الكثيب فيلفت نظر «أحمد كمال» الذي يسير باتجاهه!
كان شادي في المومياء يتحاشى الإضاءة الصناعية قدر الإمكان فيصور المشاهد التي تدور صباحاً في الصباح، والتي تدور عصراً في العصر وهكذا! أما الجزء الأخير من الفيلم وهو نقل التوابيت إلى السفينة وطوله 12 دقيقة ويتكون من 28 لقطةً فقد صوّر «شادي» كل لقطة في يوم واحد أي استغرق تصويرها 28 يوماً. ففي سبيل عدم استخدام الإضاءة الصناعية تم تصوير كل لقطة في «الصُبح» أي ما بعد الفجر وقبل شروق الشمس!!
الفيلم ذو إيقاع بطيء فهو يعتمد على اللقطات الطويلة زمنياً ولهذا جاء سيناريو ما بعد التنفيذ 45 صفحة بينما مدة الفيلم تبلغ الساعتين! ولعل هذا ما جعل المشاهدين يعزفون عنه وربما بالإضافة إلى اللغة الفصحى. ولكنه تحفة سينمائية وجدير بالمشاهدة!
حصل الفيلم على جوائز عالمية متعددة ومازال يحظى بالتقدير أينما عُرض. وعام 2009 قام المخرج الأمريكي «سكورسيزي» بترميم النسخة الوحيدة منه في مؤسسته المخصصة لترميم كنوز السينما من الأفلام وتم عرض الفيلم في مهرجان كان ذلك العام. ويعتبره معظم النقاد والسينمائيين العرب أفضل فيلم عربي.

k الخبيئة في علم المصريات (بالفرنسية Cacher) هي مجموعة الآثار التي أُخفيت عن الناس بقصد حمايتها من اللصوص على الأرجح.

 

 

 

ذو صلة