مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

الذكاء الاصطناعي الإشكاليات والخطورة

 

جرى تعريف أسلوب محاكاة العقل البشري، أو (الذكاء الاصطناعي)، على أنه الذكاء الذي تبديه الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، مثل القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل على أوضاع لم تبرمج في الآلة، كما أنه اسم لحقل أكاديمي يعنى بكيفية صنع الحواسيب والبرامج القادرة على اتخاذ سلوك ذكي، ويعرف كبار الباحثين الذكاء الاصطناعي بأنه دراسة وتصميم أنظمة ذكية، تستوعب بيئتها وتتخذ إجراءات تزيد من فرص نجاحها، في حين يعرفه آخرون بأنه علم وهندسة صنع الآلات الذكية.


تعلم واستنتاج ورد فعل
والذكاء الصناعي هو سلوك وخصائص معينة تتسم بها البرامج الحاسوبية، تجعلها تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، ومن أهم هذه الخاصيات القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل، على أوضاع لم تبرمج في الآلة، وهناك الكثير من المؤلفات عرّفت الذكاء الاصطناعي، على أنه دراسة وتصميم العملاء الأذكياء، والعميل الذكي هو نظام يستوعب بيئته ويتخذ المواقف التي تزيد من فرصته في النجاح لتحقيق مهمته أو مهمة فريقه، وفي عام 1956م قام عالم الحواسيب (جون مكارثي) بصياغة ذلك المصطلح بالأساس، وعرفه بنفسه بأنه علم وهندسة صنع الآلات الذكية، وقد تأسس هذا المجال على افتراض أن (ملكة الذكاء)، يمكن وصفها بدقة بدرجة تمكن الآلة من محاكاتها، وهذا يثير جدلاً فلسفياً حول طبيعة العقل البشري وحدود المناهج العلمية، وهي قضايا تناولتها نقاشات وحكايات أسطورية وخيالية وفلسفية منذ القدم.
 وهناك من العلماء، من أكد بأنه من الممكن من الناحية التقنية (نسخ الدماغ مباشرة) في المعدات والبرمجيات، وأن هذا سيتم بشكل مطابق للأصل تماماً، ففي نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، باتت أبحاث الذكاء الاصطناعي على درجة عالية من التخصص والتقنية، وانقسمت إلى مجالات فرعية مستقلة بشكل عميق، لدرجة أنها أصبحت قليلة ببعضها البعض، كما نمت أقسام المجال حول مؤسسات معينة، وعمل الباحثون على حل مشكلات محددة، وظهرت خلافات في الرأي نشأت منذ زمن، حول الطريقة التي ينبغي أن يعمل وفقاً لها الذكاء الصناعي.


حقيقة واقعية ببعض المجالات
بدت محاكاة العقل البشري، ببعض المجالات حقيقة واقعية تحقق من خلاله إنجازات كبيرة، كالتعرف على الأشكال مثل الوجوه أو التعرف على خط اليد وغيرها في العديد من المجالات الأخرى، كما يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والتحكم اللاخطي مثل التحكم بالسكك الحديدية، كما تستخدم (الروبوتات) وهي شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي في المفاعلات النووية، وتمديد الأسلاك وإصلاح التمديدات السلكية تحت الأرض، واكتشاف الألغام.
 وتستخدم الروبوتات كذلك، في الصناعات كصناعة السيارات والمعالجات وغيرها من المجالات الدقيقة، كما تم استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الاقتصادية مثل البورصة، ويستخدم أيضاً في الألعاب الحاسوبية، حيث تم تطوير نظرية الألعاب، وذلك بالاستفادة منه، حيث ساهم الذكاء الاصطناعي كثيراً في هذا المجال.


تطور علم التحكم الآلي
تعد بحوث الذكاء الصناعي، من الأبحاث عالية التخصص والتقنية، لدرجة أن بعض النقاد ينتقدون تفكك هذا المجال، وتتمحور المجالات الفرعية للذكاء الاصطناعي حول إشكالات معينة، وتطبيق أدوات خاصة حول اختلافات نظرية قديمة في الآراء، وتتضمن المشاكل الرئيسة للذكاء الاصطناعي قدرات، مثل التفكير المنطقي والمعرفة والتخطيط والتعلم والتواصل، والإدراك والقدرة على تحريك وتغيير الأشياء.
 وفي منتصف القرن العشرين، بدأ عدد قليل من العلماء استكشاف نهج جديد لبناء آلات ذكية، بناء على الاكتشافات الحديثة في علم الأعصاب، ونظرية رياضية جديدة للمعلومات، وتطور علم التحكم الآلي، وقبل كل ذلك عن طريق اختراع الحاسوب الرقمي، تم اختراع آلة يمكنها محاكاة عملية التفكير الحسابي الإنسانية، وبحلول منتصف الستينات أصبحت تلك البحوث تمول بسخاء من وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاجون)، وهؤلاء الباحثون كانت لهم توقعات حول الآلات بأنها ستكون قادرة في غضون عشرين عاماً، على القيام بأي عمل يمكن أن يقوم به الإنسان، وبمرور عامين فقط أكد العالم (مارفين مينسكاي)، على أنه في غضون جيل واحد، سوف يتم حل مشكلة خلق الذكاء الصناعي بشكل كبير.


نجاحات تقليدية وغير تقليدية
في أوائل الثمانينات، شهدت أبحاث الذكاء الاصطناعي صحوة جديدة من خلال النجاح التجاري للنظم الخبيرة، وهي أحد برامج الذكاء الاصطناعي التي تحاكي المعرفة والمهارات التحليلية لواحد أو أكثر من خبراء البشر، وبمنتصف الثمانينات وصلت أرباح أبحاث الذكاء الاصطناعي في السوق لأكثر من مليار دولار، وبدأت الحكومات التمويل من جديد، وفي التسعينات وأوائل القرن الواحد والعشرين، حقق الذكاء الاصطناعي نجاحات أكبر من الناحيتين التقليدية وغير التقليدية.
 كما يستخدم الذكاء الاصطناعي باللوجستية واستخراج البيانات، والتشخيص الطبي والعديد من المجالات الأخرى في جميع أنحاء صناعة التقنية، ويرجع ذلك النجاح إلى عدة عوامل من أهمها، القوة الكبيرة لحواسيب اليوم، وزيادة التركيز على حل مشاكل فرعية محددة، وخلق علاقات جديدة بين مجال الذكاء الاصطناعي، وغيرها من مجالات العمل في مشاكل مماثلة، وفوق كل هذا بدأ الباحثون الالتزام بمناهج رياضية قوية ومعايير علمية صارمة.


تحديات فلسفية وتساؤلات عدة
لقد شكل الذكاء الاصطناعي، تحدياً وإلهاماً لعلم الفلسفة لزعمه القدرة على إعادة خلق قدرات العقل البشري، وظهرت تساؤلات عدة من أهمها هل هناك حدود لمدى ذكاء الآلات؟ وهل هناك فرق جوهري بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن أن يكون للآلة عقل ووعي؟ وجاءت إجابات على تلك الأسئلة، أهما إذا كان الجهاز يعمل بذكاء يضاهي الإنسان، إذاً فذكاؤه يماثل ذكاء الإنسان، كما تفيد نظريات أخرى بأنه في النهاية، لا يسعنا إلا أن نحكم على ذكاء الآلة بناء على أدائها، وتلك النظرية تشكل أساساً على العديد من الاختبارات.
 ثم برزت (أطروحة دارتموث) المقدمة في عام 1956م، إذ يمكن من خلالها وصف كل جانب من عملية التعلم، أو غيرها من مظاهر الذكاء بدقة شديدة تمكن الإنسان من تصميم آلة تحاكيه، ثم برزت تأكيدات لنظريات أخرى تؤكد أن الخبرات البشرية، تتشكل بشكل غريزي لا واعي، ولا تعتمد على التلاعب بالرموز بشكل واعي، فهي تتطلب أن يكون لدى الإنسان شعور بالموقف، حتى وإن لم تكن لديه المعرفة الكافية بالرموز، ثم وضعت نظرية أخرى حدوداً لما يمكن أن تفعله الآلات، بما أنها وضعت حداً لما يمكن استنتاجه حسابياً، ولكنها لم تضع حدوداً لما يمكن أن يفعله الإنسان، أعقبها نشوء فرضية حول الذكاء الاصطناعي القوي، حيث يمكن أن يكون للحاسوب عقل يماثل عقل الإنسان، إن تمت برمجته بشكل ملائم بالمدخلات والمخرجات الصحيحة، والتي تطلب منا أن ننظر داخل الحاسوب، لنحاول أن نعرف أين قد يكون هذا العقل.


سمات إنسانية مصطنعة
يحدو معظم الباحثين الأمل في أن تدمج أعمالهم في نهاية المطاف في صورة آلة ذات ذكاء عام، تجمع كل  المهارات السابق ذكرها، تتجاوز معظم أو كل القدرات البشرية، ويعتقد البعض أن هذا المشروع يتطلب سمات إنسانية مصطنعة كالوعى الاصطناعي أو المخ الاصطناعي، وكثير من العثرات تعد جزءاً لا يتجزأ من مسألة الذكاء الاصطناعي التام لحل مشكلة واحدة، ويجب حل كل هذه المشكلات، فعلى سبيل المثال، تتطلب مهمة محددة مثل الترجمة الآلية أن تتابع الآلة رأي الكاتب، ومعرفة ما يجري الحديث عنه، وإعادة كتابة نية الكاتب بأمانة الذكاء الاجتماعي، ولذلك يعتقد أن الترجمة الآلية وثيقة الصلة بالذكاء الاصطناعي التام، وقد يحتاج الذكاء الاصطناعي القوي لكي يترجم مثلما الإنسان.
 ولا توجد نظرية موحدة، أو نموذج يوجه بحوث الذكاء الاصطناعي، واختلف الباحثون حول العديد من القضايا، ومن أكثر المسائل التي ظلت دون إجابة لمدة طويلة هي، هل ينبغي للذكاء الاصطناعي محاكاة الذكاء الطبيعي من خلال دراسة علم النفس أو علم الأعصاب؟ أم أن البيولوجيا البشرية لا تمت بصلة إلى أبحاث الذكاء الاصطناعي، مثلما لا تمت بحوث بيولوجيا الطيور بصلة لهندسة الملاحة الجوية؟ وهل يمكن وصف السلوك الذكي باستخدام مبادئ بسيطة وأنيقة كالمنطق أو التحسين؟ أو هل يحتاج بالضرورة إلى حل عدد كبير من المشاكل غير المتعلقة ببعضها البعض؟ وهل يمكن إعادة إنتاج الذكاء باستخدام رموز رفيعة المستوى، على غرار الكلمات والأفكار؟ أم أنها تحتاج إلى معالجة شبه رمزية.


خوارزميات ومفاهيم من الاحتمالية
انقسمت إشكاليات محاكاة، أو خلق الذكاء إلى عدد من المشاكل الفرعية المحددة، وتتكون هذه من سمات أو قدرات معينة يود الباحثون أن يجسدها نظام ذكي، حيث الاستنتاج والتفكير المنطقي، والمقدرة على حل المشكلات، فقد وضع الباحثون الأوائل في علم الذكاء الاصطناعي الخوارزميات التي تحاكي التفكير المنطقي المتسلسل، الذي يقوم به البشر لحل الألغاز والاستنتاجات المنطقية، وأدت أبحاث الذكاء الاصطناعي إلى التوصل لوسائل ناجحة للغاية، للتعامل مع المعلومات غير المؤكدة أو غير المؤكدة، مستخدمة في ذلك مفاهيم من الاحتمالية والاقتصاد.
 وبالنسبة للمشاكل الصعبة، فقد تتطلب معظم هذه الخوارزميات موارد حسابية كبيرة للغاية، ما يؤدي إلى انفجار اندماجي، حيث يصبح مقدار الذاكرة أو الوقت اللازم للحواسيب، عندما تتجاوز المشكلة حجماً معيناً، إذ إن البشر يقومون بحل معظم مشاكلهم باستخدام أحكام سريعة بديهية وليست واعية، بالاستنتاج التدريجي الذي تمكن الباحثون الأوائل في علم الذكاء الاصطناعي من محاكاته آلياً.
أشبه بـ(استحضار الشيطان)!
في إحدى مقولاته أكد آينشتاين قائلاً: (أخشى اليوم الذي تتفوق فيه التكنولوجيا على تفاعلنا البشري، حينها سيصبح العالم جيلاً من البلهاء)، وفي حالة الحديث عن خشية البعض من الذكاء الاصطناعي، فقد بات البعض يتخوف من أنه قد يعني سيطرة الآلات واضمحلال دور البشر، على الرغم من أن الواقع ما يزال بعيداً للغاية عن الاقتراب من هذا التصور، وجاءت تحذيرات تؤكد على أن تطور الذكاء الاصطناعي قد يهدد البشرية، فها هو الفيزيائي الكبير (هوكينغ) الذي يعد من أشهر المحذرين من مخاطر الذكاء الاصطناعي وقدرة الآلات على إعادة تصميم نفسها ذاتياً، جاء قوله في ديسمبر من عام 2014م صراحة أن تطوير ذكاء اصطناعي كامل قد يمهد لفناء الجنس البشري، محذراً من قدرة الآلات على إعادة تصميم نفسها ذاتياً.
كما أعلن (بيل جيتس) مؤسس شركة (مايكروسوفت) الشهيرة عام 2015م عن رغبته في بقاء الروبوتات غبية إلى حد ما، وقال: (أنا في معسكر من يشعر بالقلق إزاء الذكاء الخارق)، كما وصف المخترع والمستثمر الأمريكي (إلون موسك) في أكتوبر عام 2015م الذكاء الاصطناعي بأنه (من أعظم المخاطر التي تهدد الوجود البشري)، كما شبه تطوير الآلات الذكية بـ(استحضار الشيطان)!، مؤكداً في الوقت نفسه أنه على الرغم من الشكل البشري الذي تبدو عليه بعض الروبوتات البشرية، فإنها ما تزال حتى الآن غبية!، وذلك وفقاً لمقاييس الذكاء الاصطناعي.


خطورة تسليم الأمور للآلة
على غرار ما سبق حذّر دكتور (ستيوارث أرمسترونج) بجامعة أكسفورد، وهو الأستاذ بمعهد (مستقبل البشرية) من مغبة صناعة حواسيب فائقة الذكاء، التي في النهاية سوف تدمرنا نحن البشر حتى وإن تم برمجتها على عدم الإضرار بنا، كما تنبأ بمستقبل حيث تصبح الآلات المدارة بالذكاء الاصطناعي، لا غنى عنها في حياة البشر، وبالتالي سوف تتولى مسؤولية إدارة كافة المهام الموكلة إلينا، جاعلين منا نحن البشر مجرد كائنات ثانوية، أو بلغة أكثر دقة وواقعية كائنات زائدة عن الحاجة، إذ إن تلك الرؤية المشؤومة والمثيرة للقلق يمكنها أن تصبح حقيقة ملموسة خلال العقود القليلة القادمة، وأضاف دكتور أرمسترونج بقوله: (نحن البشر نقوم بتوجيه المستقبل ليس لأننا الأقوى أو الأسرع بل لأننا الأذكى، وبمجرد تفوق الآلات علينا في مسألة الذكاء نكون بذلك قد سلمناها عجلة القيادة، فهناك أفلام ودراما تلفزيونية عديدة، باتت ثير مخاوف البشرية من مخاطر صناعة الآلات، التي في النهاية لها القدرة على الهيمنة علينا نحن البشر).
 كما أزاد أرمسترونج في حديثه فقال: (إن أي شيء يمكنك تصور أن تقوم به البشرية من مهام في المئة عام القادمة، يمكن أن ينهيه الذكاء الاصطناعي بدقة متناهية، وبسرعات فائقة، ورغم أن عملية تسليم المهام الحياتية إلى الآلات قد تبدو جذابة في ظاهر الأمر، إلا أنها تنطوي في داخلها على بذور نهاية العرق البشري، لأن بعض الأوامر أو التعليمات للآلات والتي تبدو في ظاهرها حميدة مثل أنه معين البشر، يمكن أن تؤول من منطق الحواسيب فائقة الذكاء، على إنهاء البشر جميعاً، وبالتالي إنهاء الاثنين معاً، علاوة على ذلك فتعليمات مثل حافظ على البشر آمنين سعداء، يمكن أن تترجم من قبل المنطق الرقمي عديم الرحمة، ادفن الجميع في توابيت خرسانية)!

 

ذو صلة