مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

تمبكتو.. غضب الطيور والتاريخ

 

يعتبر فيلم (تمبكتو.. غضب الطيور) أنضج عمل سينمائي موريتاني، فهو يترجم إبداعات الموريتانيين وموروثهم الثقافي، وحصيلتهم من الفن السابع. حيث نافست به موريتانيا لأول مرة في مهرجان (كان) السينمائي. كما أنه يلقي الضوء الكثيف ويُذكر بمدينة (تمبكتو) التاريخية المهمة، منارة العلم، ومنجم المخطوطات. ويعكس (غضب التاريخ)  لها عندما يرى ما صارت إليه.

كان الموريتانيون قد أطلقوا اسم (سيارة العفاريت)، على الشاحنة التي جاء بها الفرنسيون لتقديم عروض سينمائية متنقلة لهم منتصف القرن الفائت. ثم وصل إليهم الفرنسي (غوميز) ومعه شاشة كبيرة، وافتتح عدداً من دور السينما. ومن ثم آلت ملكيتها إلى (أبي السينما الموريتانية)، ورجل الأعمال (همام أفال). الذي أنتج أيضاً ثلاثة تسجيلات سينمائية هي: (تيرجيت)، و(ميمونة)، و(بدوي في الحضر). شكلت أساساً لعلاقة الجمهور بالسينما المحلية.
ثم توقفت السينما المحلية الموريتانية ردحاً من الزمن أسيرة لبعض المنتجات العابرة. وذلك في ظل غياب التجهيزات، وكتّاب السيناريوهات، والممثلين. كذلك لسطوة تأثير التليفزيون الموريتاني، وظهور الفضائيات، ومحلات بيع وإعارة أشرطة الفيديو. فضلاً عن نأي الشباب عن الفن واعتباره رافداً طارئاً على ثقافة البلد الأصيلة. ومن ثم غياب الرعاية الرسمية وضعف الاهتمام الشعبي الذي يعدّ من أهم روافد تحديث السينما. لكن مع بداية الألفية الثالثة، اختلفت النظرة وتوفر المفقود من دعائم السينما. وبسبب الوعي الذي راكمه بعض المهتمين مما شكّل نقطة انطلاقة لتأسيس جذور قوية للفن السابع الموريتاني.
ثم ظهر الشريط السينمائي (تمبكتو..غضب الطيور) كنقلة نوعية في هذا المضمار. وهو حصيلة لإنتاج ضخم شارك فيه سينمائيون ينتمون إلى 35 جنسية بينها 15 من الأوروبيين. قام بإخراجه المخرج الموريتاني (عبد الرحمن سيساغو). وهو من أهم وأشهر المخرجين الموريتانيين والأفارقة. فهو (محارب عتيد) في بلد لا يملك صناعة سينمائية، ولا تدخل السينما في حيز اهتماماته، لكنه استطاع القفز به إلى منصة أشهر مهرجان سينمائي. وكان قد برز اسمه ككاتب ومخرج من خلال أفلام عالجت الهجرة، والبطالة، والعولمة وديون العالم الثالث ومعاناة الدول الأفريقية. كما عمل مستشاراً للرئاسة في نواكشوط لمدة ثلاث سنوات.
وشارك الفيلم في الدورة السابعة والستين لمهرجان (كان) السينمائي الدولي. ونافس على جائزة (السعفة الذهبية) كبرى جوائز المهرجان. كما فاز العمل بجائزتين إحداهما جائزة (الديانات) في مهرجان (كان)، وجائزة تقديرية من لجنة تحكيم المهرجان. وحظي بإشادة كبيرة، وتقويم نقدي إيجابي. وينافس لحصد إحدى جوائز مهرجان (الأوسكار) العالمية. لذا ذرف (سيساغو) دموعه في مهرجان (كان) تأثراً باحتفاء النقاد به وباسم بلده الذي شارك في مهرجان عالمي. وفي موريتانيا تم الاحتفاء بالعمل من خلال عرض رسمي وجماهيري. ففي احتفالية خاصة (الأحد 21 سبتمبر 2014) بقصر المؤتمرات في نواكشوط تم العرض الأول للفيلم بحضور الرئيس الموريتاني (محمد ولد عبد العزيز). في سابقة أولى من نوعها حيث لم يسبق لرئيس موريتاني أن حضر عرض فيلم سينمائي. مما يعد نقطة تحول في تبوء الفن السابع مكانة معتبرة في المجتمع.
وكان (سيساغو) قد غامر بالتصوير في مدينة (تمبكتو). وهي ما تزال غير مستقرة وتتعرض يومياً لهجمات مسلحة. وحين اشتد الصراع رحل مع أبطال فيلمه إلى مدينة (النعمة) و(ولاتة) الموريتانية، ومناطق محاذية على الحدود الموريتانية المالية، حيث تم تصوير أغلب مشاهد الفيلم.
ويروي الفيلم، الذي تصل مدته إلى 97 دقيقة، الصيرورة التاريخية لمدينة هي مهد التراث والحضارة العربية والأفريقية في غرب القارة السمراء. فهي مدينة (تينبكتو) أو (تمبكتو)، Timbuktu من أعمال شمال شرقي مالي، و(درة الحضارة في غرب أفريقيا، وجوهرة الصحراء المتربعة على الرمال). ولقد حافظت عبر العصور على تسامحها، وتعايش سكانها مع الوافدين إليها. ويقدم صورة مقربة لما عانته المدينة خلال الفترة الأخيرة من صراعات، وتأثير التدخل العسكري الفرنسي في مالي. مما جعلها ساحة مطاردات لا تعرف التوقف بين مقاتلين محليين وقادمين من بعيد لرصدهم. كما يروي الفيلم صراعات غيبت أو كادت تفعل ملامح المدينة العريقة، التي ظلت قروناً من الزمن (أنشودة) الصحراوي الباحث عن جذوره الثقافية. كما يشخص (غضب الطيور) جوانب من المعاناة اليومية للسكان على الحدود المالية الموريتانية.
منارة علم ومنجم مخطوطات
 شكلت (تمبكتو) التي تأسست في أوائل القرن الخامس الهجري، الموافق لسنة 1080م، بوابة أقصى المغرب العربي، ملتقى القوافل التجارية البرية، وكذلك تجار الملح القادمين من (تودني). وأنجبت المدينة العديد من العلماء والأدباء والفقهاء، وازدهرت فيها الحركة العلمية والثقافية، وتعاقب عليها الغزاة. لكن أغلب سكانها من الأنصار والطوارق وحلفائهم والقبائل المتفرعة من الأشراف الأدارسة القادمة من الشمال المغربي وبعض القبائل الأخرى ذات الأصول العربية.
ولفتت (تمبكتو) الأنظار إليها كمركز إشعاع علمي، وتعمق أهلها بالإسلام، وحضارته، بعد رجوع ملك المندينغ (منسا موسى) من رحلة الحج الشهيرة التي قام بها عام 1325م. وزع السلطان في طريقه إليها آلافاً مؤلفة من سبائك الذهب، وبخاصة في القاهرة. مما تسبب في هبوط أسعاره، وقد أمر السلطان الشاعر الغرناطي الملقب بالسهيلي بتصميم جامع كبير والإشراف عليه (هو جامع تمبتكو القائم إلى اليوم)، وكانت تلك النواة الأولى لبناء صرح علمي في (تمبتكو)، حيث صار مع مرور الأيام مركزاً للعلم. كما تبرعت امرأة من سركولو (إحدى القبائل المالية) ببناء جامع آخر فيما بعد، وقد ازدهر العلم مع تقاطر الطلبة من شمال وغرب أفريقيا عليها، وقد ساعد على ذلك الإنفاق السخي الذي قام به التجار على دور العلم، فكان أروع (تزاوج بين المال والمعرفة) في عروس الصحراء، إذ وصل عدد المدارس في ذلك الوقت إلى 180 مدرسة، تضم أكثر من 25.000 طالب، كما وصل مستوى التعليم في (تينبتكو) في ذلك الوقت إلى نفس المستوى الذي وصل إليه في قرطبة وتلمسان، والقاهرة. وخلال تلك الفترة الذهبية، ضمت المدينة العلماء والرحالة والأطباء في جامع جامعة (سنكوري)، يتباحثون في أرجائها، ويتبادلون المعارف والتجارب عبر المخطوطات التي نسخها وتناقلها طلاب العلم، وشكل هذا التبادل أساس التعليم في المدارس القرآنية.
وعُدت (تمبكتو) (منارة للعلم، وذاكرة حية)، وجسر مرور الحضارة العربية الإسلامية الوافدة من مصر والمغرب والأندلس (خصوصاً بعد سقوط مملكة غرناطة 1492م)، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ففيها (القراءة نبع فياض، والتعليم تجارة رابحة). ولقد عادت، حديثاً، بمخطوطاتها المهمة إلى موقع الصدارة الثقافية. استحوذ (كنز المخطوطات)، حيث الكتب بوزن الذهب، وتُقايض بالمنازل، وتتناقلها العائلات، وتنقلها في حقائب أو أكياس على الطرق، وتحفظها، كتراث ثمين، عبر الأجيال؛ على اهتمام الأجيال الجديدة التي تحاول التعريف بها، وحمايتها من عوامل الزمن، وأذى المهربين.
تحتفظ (تمبكتو) بحوالي 200 ألف مخطوطة (منها نحو 2500 مخطوطة أندلسية مهمة)، كتبت بخط يدوي منمق، كان الغرض من بعضها تعليم الفلك الرياضيات. بينما كانت تحكي أخرى قصصاً من الحياة الاجتماعية ومن دنيا الأعمال أثناء (عصر تمبكتو الذهبي). فعلى الرفوف المسيَّجة، تطالعك أحكام قانونية، تشهد على النشاط التجاري الكثيف في تلك الحقبة. كما أن بيع وتحرير الرقيق، وأسعار الملح والتوابل والذهب والريش كلها واردة في المخطوطات الرقيّة المسندة إلى مجموعة من الرسائل المتبادلة بين حكّام ضفتي الصحراء، والمزيَّنة بالزخارف الذهبية. وأغلبها وضع باللغة العربية، غير أن بعضها كتب بالحرف العربي فقط، تعبيراً عن مختلف اللغات الأفريقية كالبول والتاماشيك، مما يدحض فرضية تفرد التراث الشفوي بنقل الحضارة الأفريقية.

 

 

ذو صلة