على وُسع ما أجد في خاطري من تقدير حيال أيّ طرحٍ أختلف معه، إلّا أنّ هذا التقدير يتقلّص ويتلاشى، عندما يخرجُ صاحبه عن الثّوابت المرعية مثل:
• التسليم بالحقائق المتّفق عليها، والمستقرّة على مرّ الحقب والسنوات.
• احترام الرّأي والرّأي الآخر، على قاعدة (قولِي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، كما قرّر ذلك الإمام الشافعي، رحمه الله رحمة الأبرار.
• تقديم الأسانيد والبراهين المقنعة بشكل لا يقبل لبساً، أو يُحدث إيهاماً وتشويشاً.
• وضوح الغاية والمقصد، بحيث تكون الحقيقة ولا غيرها هي المبتغى.
هذا ما أنتظره من أيّ (باحث) أو (مفكّر) تحمله الجرأة لاقتحام هذا الميدان، لكن أن يخرج صاحب الطرح عن تلك الثوابت، ويلوي أعناق النصوص، ويزدري (العلماء)، فحينئذٍ ألزم نفسي بالردّ عليه تعييناً، وذلك انتصاراً لحقّ أراه، ولحقائق لا أقبل لها أن تخدش، وصيانة لحرمة علماء مشهود لهم بالكفاءة، وتنبيهاً لمن لم ينتبه لمعانٍ تندس بين طيات الكلام المعسول.
من هذه المنطلقات، وتأسيساً عليها، لم أجد بدّاً ومناصاً من الردّ على مقال وصلني من أحد الأصدقاء الكرام عبر منصة (X)، موسوم بـ(التغابن المعرفي)، فارق فيه صاحبه الكثير من الثوابت، فيما أرى، فالتمست المقال من مظانه، فلم أهتدِ إلى مرجع موثوق، ولم أجد له منصة محدّدة إلّا (طريق الإسلام)، دون إشارة واضحة لكاتبه، وبعضها ينسبه لكاتب اسمه: أيمن الشّعبان، أمّا بقية المواقع فنقلته دون إشارة لكاتبه.. وأكثر ما أثار انتباهي عبارات الثناء من المتداخلين في المجموعات من عامّة ومثقّفين، وعجبت كيف فات عليهم تبيّن السُّم الذي دُسَّ في المقال مغلّفاً ببلاغة وأسلوب معسول.
وانتصاراً للحق سأورد نصّ المقال كاملاً، ثمّ أفنده:
(التغابن المعرفي)
(فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ) (غافر: 83).
(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَت تَأتيهِم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَقالوا أَبَشَرٌ يَهدونَنا فَكَفَروا وَتَوَلَّوا وَاستَغنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ) (التغابن: 6).
ليست الفاجعة أنهم جُهّال، بل أنهم فرحوا بما عندهم من العلم، فاستكفوا به عن البينات، وظنّوا أن ما بأيديهم من مناهج التحليل، وأطر الفلسفة، ونماذج الاقتصاد السلوكي، ونظريات علم النفس الاجتماعي، يُغنيهم عن هُدى الوحي، ويُعفيهم من مقام السجود للنص للشرعي، لم يكن الصدّ عن سبيل الله نتاج شبهة مُغلِقة، بل نتاج غواية عقليةٍ ترى في أدواتها الكفاية، وتستنكف أن تُذعن لقولٍ لا ينبعث من حقلها المعرفي.
وهنا تتجلّى إحدى أعظم صور (التغابن) التي سُمّيت بها السورة: تغابنٌ بين من باع اليقين بالظن، وبين من اشترى آراء البشر بعهد الله، بين من اعتصم بالبيانات، ومن استغنى بها عن البينات، ولم يسخروا من الحق جهلاً، بل سخروا منه ثقةً بالذات المعرفية، وغروراً بالمنهجية الأكاديمية، وتعالياً على التسليم للنص الشرعي، فاستُدرجوا إلى مصيرهم من حيث فرحوا، ونزل بهم العذاب من حيث استعلوا، (وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
وهكذا يُفهم أن أعظم الحجب عن الله ليست الجهالة، بل الغرور بالعلم المنزوع عن خضوع العبودية، فكل علمٍ لا ينتهي بك إلى سجدة، قد ينتهي بك إلى تهكّم، ثم هلاك... انتهى المقال.
إنّ النّظر الإجمالي لمحتوى هذا المقال ينتهي بي إلى إحصاء حزمةٍ من المغالطات التي تضمنها المقال، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مغالطات رئيسة:
أولاً: جنوح صاحب المقال نحو إرسال التوصيفات الاصطلاحية دون تحرير مفسّر، أو ضبط مرجعي، بما يعين على الفهم المشترك، وسدّ منازع التشويش والالتباس، وشاهدي على ذلك:
- إيراد الكاتب لمصطلحات علمية نحو (مناهج التحليل) و(نماذج الاقتصاد السلوكي) و(نظريات علم النفس الاجتماعي) و(المنهجية الأكاديمية) في مقام التشنيع، وعلى أنّها مثال للعلوم التي فرح بها كفار الأمم السابقين حتى منعتهم عن اتباع أنبيائهم. وهي مصطلحات يعرفها أهل العلم والباحثون، ويدرسها أبناؤنا في الجامعات. فمثلاً (الاقتصاد السلوكي) تفسيره عند أهله بأنه (فرع من فروع علم الاقتصاد يدرس كيف تؤثر العوامل النفسية والاجتماعية على قرارات الأفراد والمؤسسات الاقتصادية)، ومناهج التحليل تجدها في غالب العلوم. ويعرّف المنهج التحليلي بأنه (منهج يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة، تفكيكاً أو تركيباً أو تقويماً) ويشيع استخدام هذا المنهج في العلوم الشرعية والأدبية والفقهية والاجتماعية. وذكر الكاتب أيضاً (نظريات علم النفس الاجتماعي)، وعلم النفس الاجتماعي هو أحد فروع علم النفس، يدرس السّلوك الاجتماعي للفرد والجماعة. وتستخدم نظريات هذا العلم في دراسات لها فائدة كبيرة لفهم العديد من الجوانب الاجتماعية والمشاكل الاجتماعية، واقتراح حلول لها، وقد يُرجع الدارسون كثيراً من نظريات هذا العلم للعالم المسلم ابن خلدون، كما استعمل كثير من العلماء والباحثين المسلمين نظريات هذا العلم في دراسة التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية والمواسم الدينية مثل الحج. أمّا المنهجية الأكاديمية فهي في الواقع تلك المعايير العلمية والدقّة في البحث والتثبت في كلّ جوانبه والتي التزم بها أئمة علماء الأمة الإسلامية الكبار من أهل الفقه والتفسير والحديث واللغة كالبخاري ومالك بن أنس، والطبري، والغزالي، وابن جنّي، وجابر بن حيان... وغيرهم كثير، ثم جاء علماء الغرب فوضعوا مصطلحات ومسميات لهذا المنهج العلمي وأطّروه، حتى أصبح في مجموعهِ قواعد محددة، وعلماً يدرس.
- مصطلح النص الشرعي: لا يخفى على الدارسين ما يُقسم إليه مصطلح النص الشرعي من جهة الثبوت والدلالة: فمنه ما هو قطعي الثبوت، ومنه ما هو ظنّيّ الثبوت، ومنه ما هو قطعي الدلالة، ومنه ما هو ظنيّ الدلالة. ناهيك عن أنّ إطلاق هذا المصطلح مع الدعوة إلى السجود له دون تفسير أو تحديد جلب على الأمة الإسلامية، وسيجلب عليها، كثيراً من دعاة التعصب الأعمى، من الذين لا يعرفون الفرق بين محوري النص الشرعي، حتى يدخلون في مفهوم النص الشرعي ما دار حوله من آراء العلماء تفسيراً أو توضيحاً أو وجهات نظر قابلة للخطأ والصواب.
ومهما بلغ بنا (تأويل) هذا المصطلح، فلن يسلم سامعه من تشويش، ولبس، طالما بقي هكذا دون تحرير.
- السجود للنص الشرعي: يدعو المقال للسجود للنص الشرعي. والسجود – تفسيراً أو اصطلاحاً – لا يخرج عن معنى الخضوع تعظيماً وتذلّلاً في موضع العبودية الخالصة، وهو أمر لا يتفق لـ(النص الشرعي)، ولا ينبغي له أن يتسم به أو يُطالب عاقل به، فالثّابت أنّ النّص –أيّ نصٍّ– حمّال أوجه، ويتفاوت النّظر إليه على قدر سعة العقول، ودرجات الاستيعاب، ومراتب الإيمان، وعلى هذا لا يصلح أن يكون موجباً لـ(السجود)، الذي لا يحتمل سوى الخضوع المطلق والتقديس.
ثانياً: خلق تلك الفجوة والعداوة بين العلم والإيمان.
قصد المقال قصداً إلى استخدام مصطلحات البحث والدرس العلمي الحديث ووضعها في مفارقة واضحة مع (النص الشرعي).
أول ما تلاحظه هو محاولة الكاتب الزجّ بمصطلح (النص الشرعي) في المقال، بعد أن جعل عموده الفقري تفسير الآية الكريمة (فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ) (غافر: 83). فقد جعل البينات التي جاءت بها الرّسل السّابقون، والتي استهزأت بها أقوامهم، هي النص الشرعي، وجعل معتقداتهم الزائغة، وما آمنوا به من إلحاد وجهل مقابل مناهج التحليل والنظريات، والمنهجية الأكاديمية.
هناك محاولة صارخة لإسكات صوت العقل، والمطالبة بالسجود المطلق، والتسليم الكامل، لمصطلح النص الشرعي، دون تحديد لهذا المصطلح، أو تفنيد لتقسيماته، مع ترك الحبل على الغارب لكل من شاء أن يفهم هذا المصطلح المحوري كما أراد وبحسب أدواته المعرفية.
أمّا المحاولة الثانية فهي تشويه صورة العلوم الحديثة والبحث العلمي والمنهج الأكاديمي، والتقليل من شأنه، حيث وضعه مقابل المعتقدات الباطلة للأمم السابقة والتي صدتهم عن الإيمان.
نعم لقد حاول المقال أن يغطّي على المغالطات التي ارتكبها في الأسطر الأخيرة منه حين قال:
(فكل علمٍ لا ينتهي بك إلى سجدة، قد ينتهي بك إلى تهكّم، ثم هلاك) ولكن بعد أن زرع لدى القارئ تلك الجفوة بين العلم والدين من خلال حشر مصطلح النّص الشرعي الذي يستحضر معه كل الخلافات المذهبية والفقهية، بل والعقدية بين المسلمين أنفسهم وليس بين الأنبياء وأممهم الكافرة، ثمّ حشد حزمة من المصطلحات العلمية المرموقة لتقابل تلك العقائد الفاسدة البائرة.
ثالثاً: الاستشهاد بالآيات في غير موضعها، وتغافل أسباب النزول، وفيمن نزلت، فاستشهاده بالآية الكريمة: (فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئونَ) (غافر: 83). خروج واضح عن المأثور المستقر من التفاسير، فهي من إخبار الله، عزّ وجلّ، لنبيه، صلّى الله عليه وسلّم، عن الأمم السالفة، وما جرى لأنبيائهم من تكذيب واستهزاء ونفور، فلا يصحّ بأيّ حال تنزيل هذا المعنى على حال المسلمين، مهما بلغ اختلاف الرّأي بينهم في مسائل الفقه والشريعة بسبب الاختلاف في فهم النصوص الشرعية، أو عدم السجود الأعمى، بل التفرقة بعلم بين مستويات الدلالة والثبوت بين النصوص الشرعية. بل إن الفعل (فرحوا)، والذي هو مدار ومحور هذا المقال قد اختلف المفسرون في إحالته: أهو للكفار أم للرسل أنفسهم. هل الذين فرحوا هم الكفار أم الرسل هي التي فرحت بأمر الله وقضائه في تلك الأمم أو بما وهبهم الله من علم بمعرفته.
ونجد أن المقال يجترئ على النص القرآني في عدة مواطن: ففي حين أنّ الآية تتحدث عن (البينات) التي جاء بها الرسل لأقوامهم، قام الكاتب بثلاث عمليات جراحية للنص من نقل وتركيب أعضاء بلاستيكية دون أيّ خبرة علمية أو لغوية: فقد أسقط مراد الآية أولاً على حال كفار قريش -بما أن سورة غافر من السور المكية-، ثمّ أسقطه على العصر الحديث، وقام بعمليتين جراحيتين أخريين للنص، حيث جعل (النص الشرعي) والذي ينبغي السجود له -كما أشار المقال- مقابل (البينات)، وجعل العلوم الحديثة من مناهج التحليل و(نماذج الاقتصاد السلوكي ونظريات علم النفس الاجتماعي والمنهجية الأكاديمية في مقابل (العلم) الذي كان عند تلك الأمم السابقة). وعند مطالعة أمّهات التفاسير فسنجد أنّها تحدّد معنى البينات التي جاء بها الأنبياء لأقوامهم بأنّها (بالواضحات من حجج الله عزّ وجلّ) الإمام الطبري، (والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات) ابن كثير، (المعجزات الظاهرات) الإمام السيوطي، ولن تجد من كبار المفسّرين من اجترأ على تنزيل (البينات) على مصطلح (النص الشرعي) إلا هذا المقال.
والحال نفسه ينطبق مع إيراده للآية الكريمة (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَت تَأتيهِم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَقالوا أَبَشَرٌ يَهدونَنا فَكَفَروا وَتَوَلَّوا وَاستَغنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَميدٌ) (التغابن: 6). فلا يصحّ إنزالها على المسلمين والاستشهاد بها على اختلافهم المذهبي أو الفكري.
إنّ الخواطر كثيرة حيال هذا المقال، الذي يمثّل صورة من صور النّظر المتعجّل، واقتحام فنون العلم بغير دربة، فقد ابتلينا بمن ينادون بنسف موروثنا العلمي في الدين، ولا يرون فيه شيئاً يصلح لحاضر الزمن وقد تطوّر وتمدن، كما ابتلينا بمن يقيّد مفاهيم الإسلام الواسعة ويحجرها على فهمه الضيق، ويمهّد الطّريق لكلّ تكفيري جاهل كما هو هذا المقال، لا جرأة له إلّا على مسائل الدين، إذ يقتحمونها بغير تحرّز، ويتجرّؤون عليها بغير رادع.. وكأنّهم ما قرأوا قوله تعالى في محكم التنزيل: (الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً).