مجلة شهرية - العدد (589)  | أكتوبر 2025 م- ربيع الثاني 1447 هـ

هل نحن في حاجة إلى المثقف الرابع؟

يتناول جون بروكمان في كتابه الشهير (الإنسانيون الجدد.. العلم عند الحافة) الصادر عام 2003 -أي قبل اثنين وعشرين عاماً من اليوم- حيث يتناول فيه مفهوم المثقف الثالث ذلك القادر على فهم واستيعاب ثقافتين مختلفتين اختلافاً جذرياً ألا وهما ثقافة الفنون والآداب والعلوم الإنسانية بصفة عامة وبين ثقافة العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والبيولوجيا.. إلخ.
حيث يعتبر الشخص القادر على الفهم في كلا المعسكرين والتقريب بينهما ومحاولة الدمج والانصهار والتفكير والتأمل في كل مجال وفيهما معاً وفي المشترك والمختلف والجديد لهو أحد أكثر الأمور أهمية واحتياجاً، احتياج للتقريب والفهم والتذوق، فعلى سبيل المثال يوصف أصحاب المجال العلمي بأنهم أقل فهماً وتذوقاً للفنون والآداب، بل قد يصل الأمر بالغلاة منهم إلى التصريح باحتقار تلك العلوم والتقليل من أهميتها في حياة الفرد وحياة الأمم في مسارها نحو التطور والنمو الحياتي والاقتصادي وغيرهما.
على الجانب الآخر لا أعتقد أن المثقفين يحتقرون العلم أو لا يعترفون بأهميته ولكن ربما يشعرون أن أصحابه والمشتغلين والمهتمين به أقل رهافة وأقل تذوقاً للجمال أو أقل إنسانية مقارنة بهم وهذا كله يأتي استناداً إلى مقال وكتاب للفيزيائي والكاتب البريطاني سي بي سنو المتوفى عام 1980 والذي أشار فيهما إلى وجود ثقافتين أو معسكرين منفصلين، الكتاب عنوانه (الثقافتين والثورة العلمية) The Two Cultures and the Scientific Revolution صدر عام 1959 ويشير فيه إلى نماذج من المثقف الثالث مثل مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وكيف أنهما -وغيرهما الكثير- كانت لهما إسهامات فنية وعلمية معاً.
والحقيقة أن الطرح المقدم من سي بي سنو والذي أكد عليه جون بروكمان يحمل الكثير من الوجاهة بالفعل وربما يبدأ هذا التقسيم من خلال التخصصات المختلفة -علمي/أدبي- خلال مرحلة المدرسة الثانوية ثم يتم التأكيد عليه خلال الدراسة الجامعية ثم في الحياة العملية التالية لذلك ولكن يبقى مفهوم (المثقف الثالث) جذاباً ووجيهاً واختيارياً لمن أراد أو شعر بميول إلى المعسكر المنافس ولدينا في العصر الحديث العديد من الأمثلة على هذا ربما منها الأديب عباس محمود العقاد والدكتور مصطفى محمود وغيرهما الكثير.
والمتابع للتواريخ السابق الإشارة إليها سواء في إصدار الكتاب الأول 1959 أو حتى الكتاب الثاني 2003 يستطيع وبسهولة أن يلاحظ أن الأول كان قبل بدء عصر المعلومات والثاني كان قبل تغلغل واتساع نطاق ونوعية دخول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتطبيقات التحول الرقمي وكذلك الذكاء الاصطناعي إلى الصورة وإلى كافة مناحي الحياة، وهنا نجد السؤال عن الحاجة إلى (مثقف رابع) قادر على فهم تلك الأدوات الحديثة والتفاعل معها وتطويعها لخدمه مجاله الأصلي أو لدوره السابق كمثقف ثالث يجمع بين المعسكرين التقليديين، أم يمكن اعتبار تلك التقنيات جزأ من المعسكر الثاني -العلوم- ولا حاجة إلى إعادة التعريف والتسمية للمثقف الرابع؟
ولمحاولة الإجابة عن هذا السؤال الفلسفي يجب النظر إلى مدى تغلغل وانتشار استخدام التقنيات الحديثة في كل من المعسكرين التقليديين، هل ما تزال ضعيفة واختيارية أم وصلت إلى مرحلة النضج والإلزام؟ بمعنى هل يستطيع الكاتب أو المؤلف الموسيقي أو الفنان التشكيلي الاستمرار في تقديم إبداعاته بنفس الأسلوب التقليدي أم أصبح أكثر اقتناعاً بأهمية تلك التقنيات في تسهيل عمله وأنها تعمل لراحته وتساعده وتساهم في إطلاق الإبداعات إلى مناطق أكثر رحابة؟ هذا التساؤل أقيمت له مئات المؤتمرات والندوات حيث انقسم الحضور إلى قسمين أحدهما يرفض والآخر يرحب، ولكي نتعرف على الصورة أكثر نأخذ استطلاعاً للرأي لبيان معدلات اعتماد الموسيقيين على تقنية الذكاء الاصطناعي في عملهم، فطبقاً لاستطلاع أجرته شركة ديتو Ditto لتوزيع الإنتاج الموسيقى في أبريل 2023 على عينة من 1299 موسيقياً يعملون في المجال، أظهر النتائج التالية:
1 - 59.5 % من الموسيقيين يستخدمون الذكاء الاصطناعي في أعمالهم ومشاريعهم الموسيقية.
2 - 11 % يستخدمون الذكاء الاصطناعي في كتابة كلمات الأغاني.
3 - 20.3 % يستخدمون الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الموسيقي
4 - 30.6 % يستخدمون الذكاء الاصطناعي في الضبط النهائي Mastering للأعمال الموسيقية.
وبسؤال لاستشراف مستقبل الاستخدام كانت الإجابات كما يلي:
1 - 47.1 % يرون أنهم سيستخدمون الذكاء الاصطناعي في المستقبل في كتابة الأغاني.
2 - 61.5 % يرون أنهم سيستخدمون الذكاء الاصطناعي في المستقبل في الإنتاج الموسيقي.
3 - 66 % يستخدمون الذكاء الاصطناعي في الضبط النهائي Mastering للأعمال الموسيقية.
على الجانب الآخر يرى 28.1 % من المبحوثين من الموسيقيين أنهم لن يقوموا باللجوء إلى استخدام الذكاء الاصطناعي على الإطلاق.
المثال السابق يظهر وبوضوح أن نسب التقبل والاستخدام للتقنيات الحديثة كبير وأن المسألة مسألة وقت حتى يتحول المجال الثقافي بالكامل إلى تقبل تلك التقنيات وإلى استخدامها بصورة متزايدة، وعلى الجانب الآخر لا أعتقد أن الأمر بهذه الصعوبة والمقاومة ستكون أقل بكثير على اعتبار ارتباط المجال العلمي بتلك التقنيات ارتباطاً أكثر ضرورة لأداء الأعمال، ولذلك ومن التوضيح السابق قد نصل إلى قناعة بأنه لا حاجة للمثقف الرابع ويكتفى بالمثقف الثالث بعد إضافة بعض التعديلات والتحسينات، والحقيقة أن هذه النتيجة قد تكون مناسبة في المستقبل عندما تصل التقنيات الحديثة إلى درجة من الاستقرار ويتم الانتهاء من الفصل في القضايا المرتبطة بها مثل الفجوة بين الأمم والأمية التكنولوجية الجديدة وتقليل وطأة ارتباط ذلك بنقل التكنولوجيا وإتاحتها بتكلفة معقولة للبشر جميعاً مثلما تحاول الأمم المتحدة من خلال خطط التنمية المختلفة، وحتى نصل إلى هذه النقطة أرى أن (المثقف الرابع) مطلوب على الأقل في المناطق الأقل استخداماً والأقل إنتاجاً لتلك الأنماط الحديثة من التقنيات المتطورة.

ذو صلة