لقد وجد العقل البشري في عصرنا هذا وعبر وسائل التواصل الحديثة ما يلهيه عن محفزات الثقافة الأصل، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنه وجد في هذه الوسائل ما يدغدغ المناطق الدماغية المتعلقة بالنشوة والدوافع والعواطف، فاتجه اتجاهاً آخر أقل ما يقال عنه (الإدمان) عليها وترك ما عداها، وهذا في الواقع دلالة على أن الدينامكية التي بُني عليها هذا العقل تغيرت إلى ديناميكية تعتمد السطحية المعرفية والأخلاقية، وهذا أدى إلى انخفاض القدرة على ممارسة التفكير التأملي، إذ إن العقل قد وجد نفسه وسط بوتقة من التفاعلات السلبية والإيجابية السريعة والمتعاقبة، وهذا أمر لم يتعود عليه من قبل، بل لم يصمم عليه، فهي شبيهة بنشوة آنية سرعان ما تزول وتختفي، بينما تصميمه في الأصل التفكير والتأمل والمناقشة والمحاورة، ومن ثم الجرح أو التعديل أو التفاعل.. إلخ، ذلك مما تعود عليه العقل قبل هذه الوسائل التي أقلقته وحيرته، بل جعلته أشبه بآلة بيدها تلعب به كيفما شاءت، منطلقاً بها بلا تفكير ولا تأمل.
لقد تحولت الطبيعة الفطرية لدى العقل إلى ترف من الماضي في ظل التعاقب السريع لأخبار الفيسبوك أو (X)، وذلك لما تتمتع به من التمرير المتواصل والمتلاحق الذي يجعل الاستهلاك لا نهائياً، ويجعل العقل في تشتت غير مسبوق بين الأخبار المفرحة، والأخبار المحزنة، والمناظر المتعاقبة، والكلام الذي يقال على عواهنه، وهذا في الواقع يفضي في النهاية إلى تبلد في الذهن، وخلل في إدارة المشاعر والأحاسيس.
إن العقل وأمام هذا الواقع قد اتجه إلى الانسياق مع تيارها وسار اتجاهاتها، بل سار في اتجاه لا تلوح مآلاته إلى شيء من الاطمئنان.
إن الإدمان على هذه الوسائل قد يؤدي إلى كوارث لدى الإنسان، بل وأمراض عديدة مثل: الاكتئاب، والأمراض النفسية والاجتماعية، والخلل العقلي... إلخ، ذلك مما لم نكن نعرفه، ولم يحدث مع الكتاب والدرس والتحصيل والتأمل العقلي البصير والمتبصر والالتزام بكل معطيات الحياة التي تؤدي إلى سير الإنسان في الغاية المرجوة منه في هذه الحياة.
إنه في إحدى الإحصائيات وجد أن ما يعادل 60 % من سكان العالم يستخدمون هذه الوسائل غير آبهين بمؤثراتها، لدرجة أن بعضهم يقضي ساعات في تصفح هذه المواقع أو تلك، وهذا ما حدا بأحدهم للقول في مقالة له: إنه يمكن القول إن هناك نحو نصف مليون تغريدة وصورة تنتشران على تطبيق سناب شات كل دقيقة. إن في ذلك تضحية بالصحة وهدراً للوقت.
حقاً إن العقل يعيش زخماً نسميه تجاوزاً: زخماً معرفياً غير أنه هش.