مجلة شهرية - العدد (587)  | أغسطس 2025 م- صفر 1447 هـ

الزرقاء

هل رأى أحد حصاناً أزرق اللون من قبل؟ هل سيصدقني شخص إن قلت إن لدي فرساً زرقاء اللون، لديها أجنحة وشعر أبيض، وتستطيع الطير بسرعة الصاروخ، ولديها القدرة على الاختفاء؟ بالطبع لا، حاولت كثيراً أن أحكي لأمي لكنها لم تصدقني، ظننت أن الإنترنت قد جعل عقلي في حالة خيال دائم، لم أحاول أن أبوح بأسراري واحتفظت بها، فلن يصدقني أحد آخر على كل حال. أعطاني جدي تلك الهدية عندما بلغت عامي العاشر، كنت شجاعاً ولم أخف أبداً من شكلها، فأنا تمنيت طيلة حياتي أن أعيش مغامرة أو أواجه شيئاً مختلفاً عن بقية الناس، أسميتها زرقاء نسبة إلى لونها الأزرق الفريد، كانت زرقاء لديها روح طفولية ونظرات تداعبني بها وقت حزني، زرقاء هي جميلة الجميلات، وأعظم قلب رأيته على الإطلاق، هي صديقتي الوحيدة فأنا لم أكن الطفل بروح اجتماعية وأصدقاء، كانت زرقاء كل عام تكبر معي في يوم ميلادي، لكنها تصبح أقوى بشكل ملحوظ، لم تكن تتحدث كالقصص الخيالية الأخرى ولكن توجد لغة خفية بيننا نستطيع أن نتفاهم من خلالها، ترافقني في كل مكان لكن لا أحد يراها غيري، تحميني من أي ضرر قد يصيبني، كنت سأصاب بحوادث عديدة لولا وجود زرقاء معي وحمايتها لي، تلتقطني ونطير معاً حتى لاحظ أغلب الناس وبدأت التساؤلات، في ذلك الوقت ذهبت لأعيش مع جدي حتى تهدأ الأجواء من حولي.
جدي الحبيب كانت لديه فرس ترافقه، وهي أم زرقاء وأطلق عليها هو لقب الحسناء، نسبة لجمالها الرقيق، كانت حسناء كصفات زرقاء لكنها كانت هادئة من وصف جدي لها، على عكس زرقاء الشقية، رأيت عائلة زرقاء فكانت تشبههم كثيراً ولكن حجمها أصغر منهم لأنها الأخيرة في إخوتها، وكان الرجل مميزاً بلون شعره وأجنحته السوداء، فكان إخوتها الذكور وأبوها يتميزون باللون الأزرق الصافي ولمعة الجسد الجميلة مع لون الشعر والأجنحة السوداء، كانت الفتيات تتميز بشيء إضافي وهو الغرة البيضاء في منتصف العيون، تزوجت حسناء في وقت مبكر فلم تكن مع جدي وقتاً طويلاً، عندما تتزوج الفرس لا يكون لديها الوقت للسفر والمرافقة، حكى لي جدي حكاية عن وجود خاتم يجلب الفرس لتكون صديقة ورفيقة، وكان لجده الخامس الذي أسس تعويذة لنيل مراده، فضي اللون به لؤلؤة زرقاء اللون تتوهج، ويتخذ الخاتم شكل الإصبع بالضبط، ولا يستطيع مرتديه خلعه إلا بعد ميلاد حفيد جديد، وتأتي الفرس في لحظة التواصل بين الشخص والخاتم، لم يكن هناك أي أدلة مادية على تلك الحكايات إلا الخاتم الذي يتوارث من جد إلى حفيد، قررت أن أكتب مذكراتي وأحكي فيها تجربتي حتى يفهمها الحفيد القادم.
كبرت مع زرقاء وتربينا سوياً بسبب مرافقتها لي طيلة اليوم، كانت زرقاء تحب أكل السكر والجزر كبقية الخيول، فتفرد أجنحتها وتعبر عن سعادتها كلما أكلت جزراً ومكعبات السكر، زرقاء التي أحبتني حباً صادقاً، عاملتني على أنني فرد من أفراد عائلتها وكان كل ولائها لي وكنت صديقها الوحيد أيضاً، عشنا مغامرات وعلمتني معاني الحب والصداقة، كانت تحب كل الحيوانات، وكانت عادتها الدائمة أن تجتمع ببقية الحيوانات يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وكنت أرافقها دوماً وأتغيب عن أي مواعيد أخرى، عندما حان وقت زواجها كنت حزيناً للغاية، شعرت أنها ستتركني للأبد وتحظى برفيق آخر، لكنني فهمت أن ذلك سيحدث عاجلاً أم آجلاً ولا مفر من تلك الحقيقة، حتى أنا سيحدث لي ذلك يوماً ما.
سافرنا حول العالم وزرنا بعض المناطق السياحية فكانت سريعة كسرعة الطائرة، لا أحد يستطيع أن يراني أنا وزرقاء فكان هذا أكثر شيء ممتع من أي شيء آخر، أعود للمنزل قبل استيقاظ عائلتي من النوم، في يوم من الأيام زرنا الأهرامات ليلاً فكانت رائعة بأنوارها الصفراء التي تحيط كل جانب من الأهرامات، واقتربت من (أبو الهول) بشموخه وهو مستلق ويشبه جلوس الأسد بين عرينه، في مرة أخرى زرت الصين فرأيت سور الصين العظيم الطويل جداً وكأن ليس له نهاية، ومررنا بجانب معالم الصين وكأنها شارع واحد بسبب سرعة زرقاء، عندما كبرت أكثر زرت الكعبة وكانت الأمطار تتساقط ويمشي الناس في خشوع مستمر، وكانت تلك أفضل رحلة ذهبت إليها على الإطلاق، زرت أماكن عديدة فيما بعد ولكنني لا أستطيع أن أمضي يوماً كاملاً في المنطقة التي نزورها، تمنيت لو بإمكاني الهروب من منزلي للأبد وأعيش مع زرقاء ونسافر لنرى العالم بأكمله في وقت أطول، كانت رفقتي لزرقاء لا تعوض بثمن، بعد أعوام عديدة وانتظار طويل رزقت بحفيد، وفي حفل ميلاده العاشر أعطيته الإرث الذي ورثته وسيرثه هو أيضاً؛ مذكراتي ليقرأها ويرتدي هو الخاتم بدلاً مني ليبدأ مغامرته الجديدة، وسأكون قد أتممت مهمتي أخيراً، ونفذت وصية جدي العزيز، وتلك هي أسطورتي الخاصة التي زادت في تاريخ الأساطير ولن تنتهي أبداً وستظل تتوارث مع الأجيال.

ذو صلة