مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

اختلاف المعايير الأكاديمية والرؤى السياسية

أسهم العرب بنصيب مشهود في ترسيخ التقاليد العلمية الجامعية، ذلك ما تقره مصنفات التاريخ التي تعقبت سيرورة التأطير العملي للمعارف الإنسانية، ومعنى ذلك، أن الحضارة العربية، مثلت جزءاً تليداً، لا يمكن نكرانه فيما يخص تاريخ المشاركة الفعالة في تثبيت التقاليد الأكاديمية على نحو مؤسساتي، ولا أدل في هذا السياق، من الإحالة إلى آثار السبق النبيه، حين أسس العرب جامعة الزيتونة بتونس، وجامعة القرويين بفاس، وجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، فكلها أنقاض حية، تؤكد ذلكم المجد الأكاديمي الذي شيده الأسلاف حين قادوا سفينة الحضارات. بيد أن تملي واقع الحال -اليوم- يثبت عكس ذلك، فما الذي تغيّر بين الماضي والحاضر؟ هل فقدتِ العربُ زمام العلوم؟ وكيف اندحرت الجامعات العربية إلى المراتب المتأخرة؟ أيكمن الخلل في معايير التقييم أم في تقاليد التكوين؟ وما المقومات التي أدت ببعض الجامعات العربية إلى احتلال مراتبَ مشرفة؟

لا ينبغي أن نستغرب تغيّر موازن الريادة العلمية، وذلك لسبب بسيط، هو أن هذه الموازين تخضع قوانينها لمدى توهج الحضارة أو أفولها، تلك -إذن- هي قصة (أكاديمية العلوم العربية الإسلامية - محمد الحيرش) التي قادت -فيما مضى- تقدّم المعارف الإنسانية، وباتت -الآن- تابعة للحضارة الغربية بعدما فقدت أسباب الريادة الأكاديمية. في هذا السياق التاريخي، تندرج ظاهرة التقهقر الأكاديمي للجامعات العربية بوصفها أزمةً بنيويةً تؤرق مضجع الحكومات والشعوب العربية، وذلك نتيجة الأهمية الكبرى التي يضطلع بها مجال المعرفة في نمو الأوطان، وتحقيق الرقي الاجتماعي والحضاري، بما ينعكس إيجاباً على نظام الدول، واستقرارها، وتأمين مستقبلها. ولعل هذا التراجع، لا ينحصر في المعايير بقدر ما يتصل أيضاً بالسياق التاريخي المأزوم للعالم العربي، فانطلاقاً من ظهور النهضة إبان مطالع القرن الثامن عشر، وإلى الآن، عاش ما يربو عن نصف الدول العربية أوضاعاً سياسية واقتصادية مضطربة، لم تسمح لها بتجاوز ذلك النكوص الذي اعتور فضاء الجامعات، وما انفك يتجلى في قلة البنيات مقابل نمو ديموغرافي كبير، وندرة الموارد البشرية والتجهيزات مقابل توسع حاجات الشعب والمسالك في العلوم الدقيقة أو الإنسانية والقانونية إلخ.
تعود مسوغات احتلال أغلب الجامعات العربية لمراتب متأخرة، في التصنيفات العالمية المعتمدة، إلى ما تعانيه الرقع الأكاديمية من عراقيلَ بنيوية ومادية، مما يحول أمام إمكانات مواكبتها للمعايير العلمية التي تظل شبه مستحيلة بالنسبة للدول العربية التي لم تحصّن بعد استقرارها الاقتصادي، ومعنى ذلك، أن الاعتمادات المادية التي تُرصد لمجال التعليم العالي من أجل تأهيل البنى التحتية أو تنمية الموارد البشرية، تؤثر بأوجه متفاوتة على انتزاع المراتب المتقدمة في أكثر من تصنيف، فعلى سبيل الذكر، يراعي تصنيف (كيو إس QS) -في أغلب شروطه- عدد الطلاب للأستاذ الواحد، ومدى استقدام المؤسسة الجامعية للأجانب طلبةً ومدرسين، فضلاً عن مردودية المتخرجين في سوق الشغل. ومن ثمة، تغدو الموارد المالية المرصودة للمؤسسات الجامعية، أحدَ الشروط المركزية لانخراط هذه المؤسسات في أشهر التصنيفات، وعلى رأسها تصنيف (كيو إس QS)، الذي وجه نسبة 40% من تقييمه إلى الاعتمادات المادية التي يمكننا تلمسها في توافر البنى، والعنصر البشري، وسوق الشغل بعدِّه الفضاء الذي يُبرز كفاءة المتخرجين. والواقع هو أن الكثير من الجامعات العربية لا تستطيع مؤهلاتها متابعة المتخرج بعد إنهاء مشواره الجامعي، فيما لا توفر بعض الدول إمكانية استكمال المسير الدراسي بسلك الماجستير والدكتوراه للجميع، لأن بنيتها التحتية وعنصرها البشري غير قادريْن على احتواء نسبة تتجاوز 10% من الحاصلين على البكالوريوس، بسبب قلة الأطر، وضعف الاعتمادات المالية المرصودة لقطاع البحث العلمي.
إن حسن استثمار الموارد الاقتصادية في مختلف المجالات التي تتقاطع مع البحث العلمي، هو الباعث الرئيس على احتلال بعض الجامعات العربية لمراتب مشرفة، مثلما نلامس في نتائج تصنيف (كيو إس QS) سنة 2022 عندما تزعمت المملكة العربية السعودية الجامعات العربية باستفرادها بالرتب الأولى، فضلاً عن هيمنتها على النسبة الأكبر عربياً بمعدل ثلاث جامعات اندرجت ضمن العشر الأوائل، وهي جامعة الملك عبدالعزيز، وجامعة الملك فهد، وجامعة الملك سعود. وفي مقابل ذلك، تقدمت جامعة الشارقة هذه السنة، بـ 150 نقطة ضمن تصنيف التايمز، لتتوسط فئة (251 - 300) من بين أفضل الجامعات في العالم، وهي مرتبة مشرفة قياساً بالأماكن المتأخرة التي ترقد فيها الجامعات العربية في فئة ما بعد الألف، دون إغفال أن جامعات كثيرة لا تسمح ظروفها الأكاديمية بولوج غمار التصنيف نهائياً. ومن ثم، يُعزى تباين المراتب إلى تنوع المعايير العلمية والبنيوية التي تنهض عليها مجمل التصنيفات المعتمدة، منها ما يرتكز حول النظام البيداغوجي، وأثره، وسمعته، ومنها ما يتصل بمدى موافاة الجامعة للمعايير الشكلية التي تخص هيئات التدريس، وجودة الظروف والمؤسسات، ومردودية المكون البشري طلبة ومدرسين، ومدى أهمية البحث العلمي بالنسبة لسياسات الدول.
وأخيراً، يبدو أن الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي تنعم به المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بعدّهما مثاليْن نموذجيين، هو أحد الأسباب الرئيسة في تطوّر التعليم العالي، واحتلاله لمواقع مشرفة قياساً بالوضع العربي، فالإمارات والسعودية دولتان تراهنان -بنحو إستراتيجي- على المستقبل، ورهان من هذا القبيل، لا يمكن أن يغيب عنه سؤال الجامعة بوصفها الموطنَ الذي تتقاطع فيه جلّ المجالات الحيوية، والموئلَ الذي تُثمن في كنفه مختلف القطاعات المنوطة بمواجهة تحديات الألفية الثالثة، وذلك تجنباً للنكوص العلمي، ومدى تكلفته الخطيرة على المستقبل العام للدول والمجتمعات الساعية إلى امتلاك مقاليد التقدّم العلمي والتقني والرقمي.

ذو صلة