مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

معركة الحقيقة بين التشويق والتسويق والتدقيق

أصبح التصنيف في السنوات الأخيرة عنواناً لكل شيء، فمن أطول رجل في العالم إلى أقصر امرأة بين أقزام أفريقيا، ومن أسرع سيارة حديثة إلى أقوى طائرة مسيرة (درونز) تزرع الرعب في نفوسنا، تغمرنا سلسلة لا متناهية من التقارير، والتي تصنف كل شيء يمكن تصنيفه، بما في ذلك الأشياء المسكوت عنها، التي ربما لا ينبغي ولا من اللائق استعراض سماتها، أو المساومة الأخلاقية في الكشف عنها، ووسط هذا الحشد الكثيف من الموضوعات تطل الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا، التي صارت في الوقت الحاضر موضوعاً جذاباً للدراسة والبحث، وقد حظيت تصنيفاتها باهتمام واسع في جميع أنحاء العالم، يتقدمه الفضول العلمي للتعرف على أفضل الجامعات ومعاهد التعليم العالي، وحصائل تقدمها وتراجعاتها، لذلك لم تعد دراسة إستراتيجيات نظام التصنيف مسألة ترف لأي جامعة تتطلع إلى الاستمرار في سوق التعليم، لأن ما تصعد إليه في درجات هذه التصنيفات يمثل أمراً حيوياً لضمان القبول، وعلى مدى العقود القليلة الماضية أصبحت الجامعات، في أجزاء كثيرة من العالم، وبما فيها البلاد العربية، أهدافاً لهذا الهوس التصنيفي.

لهذا، لا بد أن نتساءل عن: ماذا يا ترى يعني تصنيف الجامعات العالمية في الواقع؟ وهل تخبرنا كل هذه التصنيفات بأي شيء جوهري عن الجودة النسبية للجامعات؟ وهل ينبغي لجامعات الدول العربية أن تهتم بتأخرها في أحدث التصنيفات المعروفة؟ وهل تحفز الجامعات على الأداء الأفضل أم أنها تدعو في الواقع إلى (التلاعب) بالنظام؟ وهل تفصل مثل هذه التصنيفات بين الصالح والطالح، أم الفطير عن الخطير، أم أنها تشتت الانتباه عن تحقيق مساواة حقيقية في الجودة؟ وهل هي مقياس حقيقي لهذه الجودة؟ وعلى الرغم من التحذيرات المنهجية المختلفة الواردة في الكثير من الدراسات، التي حاولت الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، في لحظاتها الأكثر إيجابية، تؤكد الوكالات والمجلات، التي تنتج تصنيفات الجامعات، أن هذه التصنيفات في الواقع تكشف عن ترتيب تحديد يحدث بشكل طبيعي، إن لم نقل (عشوائي)، فقد تزامن ظهور التصنيفات العالمية مع تسارع العولمة في مطلع الألفية الثالثة، وذلك لأن التعليم العالي صار منافسة، أو بالأصح لعبة تجارية عالمية نجاحها، أو فشلها، جزء لا يتجزأ من مؤشر قوي على إنتاج المعرفة واستقطاب المواهب لدى الدول.
ولهذا فإن المشهد، الذي يعمل فيه التعليم العالي اليوم، أصبح شديد التعقيد، وهناك العديد من المطالب والعديد من الدوائر، التي لها تأثير وصوت في تشكيل دور التعليم العالي، فبينما كانت التصنيفات المحلية للجامعات والمعاهد العليا موجودة منذ أوائل القرن العشرين، مثلت التصنيفات العالمية تحولاً كبيراً في نطاقها وتأثيرها، وهناك عدد من الإستراتيجيات، التي تم تطويرها لترتيب مؤسسات التعليم العالي في جميع أنحاء العالم، لكنها لم تركز على التقييم النقدي لأوجه القصور المحتملة في إيجاد أنظمة تصنيف مقبولة على نطاق واسع، بما في ذلك تصنيفات تايمز العالمية، وتصنيفات جامعة كيو إس العالمية، والترتيب الأكاديمي للجامعات العالمية (ARWU)، وتصنيف ويب ميتريكس، التي لم تقم مطلقاً بتقديم عرض مرض من حيث صلاحية إنشائها، والمعايير المثلى الأخرى المتعلقة بالنزاع حول موضوعية تقييمها، ومع ذلك ظلت أنظمة التصنيف هي الأكثر شيوعاً، فقط تقديراً لما كانت تقوم به على مدار العقود، رغم افتقار كل واحد منها إلى التميز في التصنيف، ويعد عدم توفر البيانات والمنشورات، التي يتم من خلالها الترتيب أحد العوائق الرئيسة، التي تواجه تحديد مصداقية هذه الأنظمة.
الأثر والتميز
لقد غيرت التصنيفات العالمية بشكل حاسم طبيعة الحديث حول التعليم العالي للتأكيد على أداء الجامعات في اقتصاديات المعرفة، فكيف حدث ذلك؟ ولماذا أصبحت التصنيفات مهمة بشكل متزايد؟ للإجابة عن ذلك يمكننا القول إنه على مدار هذه السنوات الأخيرة، أصبحت التصنيفات فاعلاً ومؤثراً مهماً على مشهد التعليم العالي والمجتمع على نطاق أوسع، وتستخدم في جميع أنحاء العالم من قبل صانعي السياسات، وصناع القرار على مستوى الحكومة ومؤسسات التعليم العالي، وكذلك من قبل الطلاب، وأولياء الأمور، والمستثمرين، والمجتمعات المحلية، ووسائل الإعلام، وغيرها، ورغم أنه يوجد أكثر من 18000 مؤسسة جامعية في جميع أنحاء العالم، إلا أن أولئك الذين يتم تصنيفهم ضمن أفضل 500 يكونون 3٪ فقط، ومع ذلك، ومن خلال منطق ضار، فقد ولدت التصنيفات تصوراً بين الجمهور وصناع السياسات وأصحاب المصلحة بأن من هم فقط ضمن أعلى 20، أو 50، أو 100، هم من يستحقون أن يطلق عليهم لقب ممتاز.
راهن جامعاتنا
إن الذي نأمله هو التأكيد على جميع مؤسساتنا التعليمية العليا يجب أن تكون على أعلى مستوى من الجودة والامتياز، لذا يجب علينا طرح السؤال: هل يؤدي خلق المنافسة بين المؤسسات الجامعية العربية إلى تحسينها بالفعل؟ فقد تعكس الملاحظة الشاملة لأنظمة التصنيف، حقيقة أن التحديات العامة تشمل تعديل الحجم المؤسسي، والاختلافات بين المتوسط والمتطرف، وتحديد المؤسسات، وقياس الإطار الزمني، وتخصيص الائتمان، وعوامل التميز، بالإضافة إلى تعديل المجالات العلمية، ويعد التفسير الخاطئ لبيانات القياس مسؤولاً أيضاً عن بعض الخلافات المتعلقة بالترتيب، فتصنيفات الجامعات، بهذا المعنى، هي مجرد علم اجتماعي عقلاني في العمل، وعندما يتم إجراؤه بشكل صحيح باتباع إجراءات منهجية سليمة، فإنها تشكل وسيلة صالحة وخالية من القيمة لتقدير الأشياء غير المتبلورة، التي تسمى (التميز)، أو (المستوى العالمي).
وفي المحصلة النهائية، نطرح بعض التوصيات، التي أرجو النظر إليها، وتفحص جدواها، إن أردنا أن يكون لنا تميز نتطلع به إلى الكيف، وليس الكم، الذي نصعد به سلم التصنيفات. لذلك، لا ينبغي تغيير مهمة مؤسساتنا التعليمية لتتوافق مع التصنيفات، ولا ينبغي استخدامها باعتبارها المجموعة الوحيدة من المؤشرات لتأطير الأهداف، أو تقييم الأداء، أو لإبلاغ السياسات، أو قرارات تخصيص الموارد، ولا ينبغي التلاعب بالمعلومات والبيانات العامة من أجل الارتقاء في الترتيب، بل يجب أن نتأكد من أن جامعاتنا لديها إستراتيجية واقعية، وإطار عمل مناسب للأداء، وإن كان لا بد من استخدام التصنيفات، يستحسن أن يكون ذلك فقط كجزء من نظام شامل لضمان الجودة، أو التقييم، أو القياس، مع ضرورة الانخراط في حملة إعلامية لتوسيع وسائل الإعلام وفهم الجمهور لقيود التصنيف. وينطبق الشيء نفسه على الجامعات الأقل شهرة، والتي ليس لديها ميزانية كبيرة للترويج لأنفسها، أو لا تستوفي جميع المعايير، التي تحددها التصنيفات. ربما لا تكون الجامعة هي الأفضل في كل شيء، ولكن يمكنها القيام ببعض الأشياء على أكمل وجه.

ذو صلة