يسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على اللهجات العربية غير المعروفة التي تنتمي إلى ما وراء إقليم الساحل الأفريقي، المعروف تاريخياً باسم الحزام السوداني، الممتدّ جغرافياً من ساحل المحيط الأطلسي إلى الساحل الغربي للبحر الأحمر. ويتناول المقال ظاهرة استعراب المجتمعات الأفريقية في هذا الإقليم والتمثيل لذلك بعدد اللهجات العربية المولّدة التي نشأت في الحواضر والمدن الأفريقية، مع التركيز على لهجة أنجمينا.
ونشير في البدء إلى توغّل المؤثّرات العربية الإسلامية في اتّجاه الجنوب، في أعقاب الفتح الإسلامي لمصر وأفريقيا والمغرب الأقصى بدءاً من سنة641م، ، نحو إقليم الحزام السوداني على موجات متفاوتة ومظاهر مختلفة، باختلاف الظروف التاريخية والحواضن الثقافية والاجتماعية التي استقبلت الدعوة الإسلامية على امتداد هذا الإقليم. فبينما كان لشعوب السودان الغربي السبق في الاستجابة للدعوة الإسلامية بدءاً من القرن الحادي عشر، نجد أن استجابة مجتمعات السودانيين الأوسط والشرقي، تأخّرت إلى القرن الخامس عشر الميلادي، كما أن ممّا يلاحظه الباحث، أن انشار العربية في السودان الغربي، كان في حدود ضيّقة، لم يتجاوز طبقة العلماء ولم يخرج من المساجد والمدارس، بينما اتّسم توغّل الإسلام في مجتمعات السودانيين الأوسط والشرقي بظاهرة الاستعراب التي ترسّخت عبر موجات متلاحقة من القبائل العربية المهاجرة التي اتّخذت البلاد موطناً لها، حتى سادت العربية مع مضيّ القرون وغدت لغة ًللمجتمع.
وممّا توافق عليه المؤرّخون والباحثون، أن السلطنات الإسلامية التي نشأت في السودان الأوسط، في كلّ من كانم وودّاي ودارفور، كان قوامها من العناصر المحلّية الأفريقية المستعربة التي أقبلت على الثقافة العربية الإسلامية واتّخذت من العربية أداةً للتواصل والتفاهم، ولغة للتعليم والثقافة والإدارة، وكان من آثار غلبة هذه العناصر المستعربة على شؤون الدولة، أن نشأت في حواضر ملكهم لهجات مولّدة، قامت على قاعدة من لهجات القبائل العربية المحيطة بالمدن، تمثّل فيها ما يحدث عادة في اللهجات المولّدة من آثار باقية من اللغات المحلية، ونزوع إلى الاقتصاد في القواعد الصوتية والصرفية والنحوية، وهو ما نلحظه حتى يومنا هذا في اللهجات العربية في الفاشر، حاضرة سلطنة دارفور، وأبّشّة، حاضرة سلطنة ودّاي، وهو ما يمكن تبيّن ملامحه في تقلّص النظام الصوتي، وذلك باختفاء الأصوات المفخّمة والأصوات الحلقية واللهوية، وفي تقلّص النظام النحوي، وذلك بإلغاء الاختلاف بين المذكّر والمؤنث جمعاً وإفراداً في الأفعال والأسماء والضمائر.
وممّا يدخل في عداد اللهجات المولّدة لهجة جوبا عاصمة جنوب السودان (عربي جوبا)، ولهجة النوبي (كي نوبي) في أوغندا وكينيا، فكلتاهما كانتا ثمرة ما يعرف في اللسانيات بمولّد المعسكرات (Coiné militaire)، وترجع نشأتهما إلى عهد الخديوية خلال القرن التاسع عشر، حينما نشأت هاتان اللهجتان لتيسير التفاهم والتواصل بين العناصر المختلفة المكوِّنة للوحدات العسكرية التركية العاملة في تلك المناطق في مرحلة أولى، ثمّ ما لبثتا أن غدتا لغة أمّ في مراحل لاحقة، لأجيال جديدة. وهي ظاهرة لسانية مماثلة للبيدجن (Pigin)، في المستعمرات البريطانية، والكريول (Créole)، في المستعمرات الفرنسية.
تعدّ لهجة أنجمينا العربية نموذجاً لمولّد المعسكرات، فقد نبتت هذه اللهجة بادئ الأمر في جيش رابح فضل الله، المؤلّف في غالبه من قبائل بحر الغزال، وسرعان ما تطوّرت مع نشوء مدينة فورلامي (أنجمينا) وتوطين أعداد كبيرة من فلول جيش رابح فيها، وقدوم أعداد متعاظمة من القبائل العربية أو المستعربة إليها، بوصفها عاصمة المستعمرة الجديدة.
وبوسعنا إجمالاً، مقارنة لهجة أنجمينا من حيث ظروف نشأتها، بلهجتي الفاشر وأبّشّة، على أن هنالك بعض وجوه الاختلاف، تتمثّل في أن لهجتي الفاشر وأبّشّة قامتا على قاعدة من لهجات القبائل العربية، بينما قامت لهجة أنجمينا على قاعدة من مولّد المعسكرات، الأمر الذي جعلها تنزِع إلى أقصى درجات الاقتصاد في القواعد الصوتية والنحوية والصرفية. يضاف إلى ذلك اختلاف ظروف النشأة السياسية والثقافية، فبينما نشأت لهجتا الفاشر وأبّشّة في ظلّ سلطنتين إسلاميتين ونموذج ثقافي عربي إسلامي، فإن لهجة أنجمينا نشأت في ظلّ دولة استعمارية وهيمنة نموذج ثقافي فرنسي شديد الوطأة.
يطمئنّ المرء الآن، وبعد أكثر من ستة عقود على استقلال تشاد، إلى أن لهجة أنجمينا لم ترقَ إلى مرتبة اللهجة العربية النموذجية في تشاد، على خلاف ما عليه الأمر، في غالب الحواضر والعواصم التي تفرض لهجتها على أطراف الدولة المختلفة، فواقع الحال أن لهجة أبّشّة، بما لها من إرث تاريخي، لم تكتفِ بمنافسة العاصمة فحسب، بل أضحت تؤثّر فيها تأثيراً متّصلاً ومتعاظماً، إضافة إلى التأثير الوافد من محافظتي البطحة وسلامات حيث تنتشر العشائر العربية وترتفع معدّلات الاستعراب. كما يضاف إلى ذلك أيضاً المؤثرات الوافدة بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عبر الحدود، من العالم العربي. ذلك كلّه أفضى إلى نشوء ما يسمّى في اللسانيات بظاهرة الثنائية (Diglosie)، وتتمثّل في تعايش مستويين من اللهجة، مستوىً عالٍ للتفاهم مع الخاصّة وأفراد الأسرة أو القبيلة، ومستوىً دون ذلك تستعمل فيه لهجة أنجمينا للتفاهم مع عامّة الناس.
شهدت مدينة أنجمينا منذ ثمانينات القرن الماضي أحداثاً سياسية كبرى، وتبدّلات في الموازين السياسية والثقافية، تمثّل بعضها في إعادة الاعتبار إلى الثقافة العربية بحسبانها مكوّناً أصيلاً من مكوّنات الشعب التشادي، وكان من نتائج ذلك قدوم كثير من أبناء تشاد، وبوجه خاصّ أبناء ودّاي، من مهاجرهم في الدول العربية، وبوجه خاصّ من السودان، إلى أنجمينا، واندماجهم في مجتمعها، وتعاظم تأثيرهم، بحيث يمكن القول بأن لهجة أنجمينا ما فتئت تشهد منذئذٍ تراجعاً واضحاً أمام لهجة أبّشّة.
يمكن القول منذ اليوم، بتزايد نفوذ النمط الثقافي والاجتماعي العربي الإسلامي في المشهد العامّ لأنجمينا. ذلك أمر نلحظه في الزيّ والزينة وأساليب الاحتفال والتعبير الفنّي وما إلى ذلك، ويمكن تحديد القوى الاجتماعية التي ترفد هذا النمط الثقافي وتعزّزه، في طبقات التجار والجلّابة والمعلمين والمغتربين التشاديين القادمين من الدول العربية، لا سيّما من السودان، وجلّهم من أبناء المحافظات الشرقية، من ودّاي والبطحاء وسلامات. وترتبط هذه الفئات الاجتماعية في معظمها ارتباطاً تقليدياً بجمهورية السودان عن طريق القرابة والمصاهرة. يضاف إلى ذلك طبقة المغنين المؤلفة من تشاديين وسودانيين، يقومون بإحياء الليالي الغنائية ويروّجون للأغنية السودانية، إضافة إلى ما تقوم به أجهزة البثّ والاتّصال والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من تأثير مباشر عبر الأغنية والدراما، وتعدُّ لهجة أم درمان أهمّ مظاهر التأثير الوافدة عبر هذه القنوات.