مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عقارب الساعة

حين تعطل أحد قضبان سكة الحديد في بلدة (راجو)* وخرج عن مساره، سقط شعر جدتي الطويل كما تساقطت الأوراق في الفصل، أما أبي ظلت أظافره تنمو طويلاً دون أن يقلمها، تأخر العامل المختص بالتصليح ومثله الصيف أيضاً، وتعطلت الساعة في المحطة كذلك، عاد شعر أمي ينمو أسود كما كان، جميلاً مسترسلاً، واختفت التجاعيد عن وجهها، مرّت الكثير من القطارات ورافقتها حوادث جمّة لم يبالِ عامل التصليحات بها، لكن أبي عاد ممتلئاً وقوي البنية، نمنا تحت عقرب الساعة المتوقف كانت أمي تغطيني بوشاحها الأسود الذي كان تماماً كشعرها وأبي ينفث من سيجارته وينظر إلى عقرب الساعة ليحرسنا من عقارب الحقول، كنت أعد النجوم كما نصحني أخي الأصغر لكني على إثرها فقدتُ القمر، فتوقفت عن عدّها، ثم بعد حين، فقدتُ الاثنين معاً خصوصاً حين اشتد ضوء أعمدة الإنارة في الطريق، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعدّ الغيوم المسافرة.
في المحطة تغيرت وجوه أبناء قريتنا لم يعودوا كما كانوا، بدأت المعارك تنشب بينهم وكثرت أعمال السرقة والقتل، ما هذا الذي يحدث؟ لم نكن هكذا. أذكر أن أحدنا لم يكن يقول للآخر إنك سكسي وجذاب، وللآخر بشع وقميء، كنا كلنا حلوين في عيون بعضنا، والنساء لم يغرن من جمال بعضهن ولا كان الرجال يغارون من فحولة بعضهم، ثم كانت رائحتنا جميعاً طيبة لم نشتم رائحة إبط أحد مع أننا لم نكن نتعطر، ماذا حصل لتنتشر الرائحة النتنة في كل أرجاء المحطة عند أول قميص خلعناه؟! سقطنا مراراً في الحفر المكتظة في المحطة وأصبحنا لقمة للأقزام الذين ينتظرون الأغصان الهشة لتسقط منها الثمار، أما نحن لم نكن نقطف إلا الثمر العالي حتى لو سقطنا مراراً.. كنا نقول إن كمية التراب التي جبلنا منها هي أكثر من باقي البشر لأن كمية الورود التي كانت تخرج من أجسامنا هائلة، وأيضاً من عطشنا الدائم للماء حتى جفت جميع أسماكنا. فقط كان الحزن كطاووس يأكل من حشراتنا مزهواً ونحن نكتب من ريشه.
مرت الكثير من الوجوه تحت الساعة المعطلة تحمل حقائبها مسرعة ومهرولة من بينهم العجائز والشبان والأطفال، وما من أحد منتبه للآخر لكن شبّاك التذاكر مغلق، والجميع مشغولون في السفر ولا يوجد موعد صريح لإصلاح قضبان السكة والساعة المتوقفة، وحده عامل التصليح كان مبتسماً يراقب الجميع دون أن يرف له جفن، لم يدرك أي من المسافرين لماذا يبتسم هذا العامل، وحدي كنت أعلم أن خطواته جلية كختم المخالفات وأن صوت سعال جدي لن يوقظ الجيران فقط حينما نضحك يتلصص الجميع علينا، هكذا كنا متشائمين حتى بلعنا كل أقمار هذا الليل. وبعد نزول المطر علق الناس في المحطة وأصبحت العودة كأي كتاب يروي عن أطلال الحضارة القديمة، وأنا كنتُ كأي أغنية حزينة أمشي ضاحكاً وأنظر إلى الأرض حين يحدق بي المسافرون.
في وقت متأخر وعند نزول أول مطر لنا ونحن في المحطة بعد فراق القرية، اتجه عامل التصليحات نحو الساعة ليصلحها، وضع السلم ثم صعد وفتح واجهتها الزجاجية الكبيرة وعند العقارب توقف، تغيرت ملامحه وأصبح وجهه كالحاً واختفت تلك الابتسامة، نزل بسرعة ولم نعد نراه من بعدها. لا أحد يعلم ما الذي رآه هذا الرجل. والآن.. كم الساعة عندكم؟ فساعة المحطة مازالت متوقفة وأظافر أبي تطول بسرعة مذهلة ربما يستطيع الآن جرح من يشاء، لكن لماذا إلى الآن لم يصل شعر أمي إلى الأرض؟!

ذو صلة