مجلة شهرية - العدد (570)  | مارس 2024 م- شعبان 1445 هـ

جورج الملك

استوقفت صورةُ مطعمٍ صغير في مجلة صدرت عام 1917 رجلاً نحيلاً، التقطته عين الآثوري صاحب المطعم. نظرة دقيقة من عدسة تفتح وتغلق بلمحة، أحاطها شحوب أبدي.
الآثوري واسمه جورج، تصدّر نضد مطعمه المنزوي، وجهه أبيض مثلث وعيناه منتفختان من التعب. الصورة نفسها نشرت في جريدة الثغر عام 1927. وقد احتفظ الرجل بنسخة بالية منها، متذكراً افتتاحية لاذعة لصاحب الجريدة الذي كان يتناول طعامه هناك كلما زار المطبعة، وصف نفسه بأنه حامل المعول محبّ الهدم وامتهان الأصنام، الأناني المسرف في الحط من الكرامة الزائفة!
طوى الرجل صورة الصباح بألوانها المشرقة أثناء خروجه من بيته وركوبه باص كيا. إشراقة شعّتها ذرات الغبار في الهواء البارد، حمله حدسٌ غامض على ملاحقة شيء ما. طالما أسلم روحه لقياد الحدس فيما تعلق بالعثور على الكتب وبقايا الأبديّات الصامتة.
شقّ طريقه إلى باعة الكتب في سوق الجمعة، فعبرَ بخار عربة بائع شاي ارتكن زاوية وبعض البسطات. بحثت عيناه عن شيء لم يدركه. آمن دوماً أن الكتب أشياء غير مادية. على الأرض لمح مجلة المعرض العتيقة بين ركام كتب غليظة الأجلاد وأخرى دراسية ومجلات ممزَّقة غطّاها الغبار. تقلقه مسحة الغبار التي تغشي الأشياء. كانت المجلة بحجم كتاب. رأى صورة المطعم الرمادية. ربما تراءت له حين استيقظ من شتات نومه. في انحناءته حرّك أوراق المجلة البالية بأنامله متردّداً بسحب يده خشية أن يختطفها أحد هواة جمع الأنتيكات. أصابعه وحدها التي تحميها، مدركاً أن البائع الذي خفض رأسه يرقبه صامتاً.
مجلة من زمن بعيد كان ثمنها آنذاك أربع روبيات هنديّة، سبقته إلى الوجود في مستهل قرن حياته. لهذا السبب استسلم لاصفرارها الذي يشبه وجهاً أبويّاً راقداً في سحابة بعيدة فرفعها واعتدل. إذا كان للمطبوعات سلالة فقد جمع بمرور الوقت أسلاف المجلّات والصحف وخزنها في صندوق ساج لا تطاله العُثث. أحبَّ رائحة الخشب الساج فهي تدوم في ذهنه كغابة أشباح يضمّها تابوت. أدرك الآن دافعه لهذا اللقاء. كانت صورة مطعم الملك جورج تتذيّل إحدى صفحاتها. تفاجأ، فلا بدَّ أنها الصورة ذاتها التي رآها سابقاً مع اختلافٍ حيّره.
شعر الآثوري بارتياح وهو يتصفّحها متظاهراً الاهتمام بمواضيعها بينما عيناه تتراقصان طرباً لوجود صورة مطعمه، ملقياً نظرة بين حين وآخر على روّاد المقهى، راسماً خيط ابتسامة على شفتيه.
شغلته الصورة عن ثرثرات يهود مقهى السِيف حول غرق الآر أم إس تيتانك. ابتلع الوحش عدداً كبيراً من أبناء جلدتهم في فجر ربيعي منذ خمسة أعوام، وما زالوا يجترّون المأثرة الكونية. كان يصغي إليهم، فاليهود لا ينسون مطلقاً، وطالما ذكّروه برداءة طهي امرأته ولافتة مطعمه وديونهم عليه. استعذبوا التذكّر واستعادة خيلاء أحزانهم وحساباتهم، مبتكرين أدوات قاسية لاستعادة نفايات الزمن.
لولاهم ما رأى مطعمه يطفو على صفحة الأبدية.
كان أحدهم مصوّراً في مجلة المعرض وصحف أخرى. ذات يوم اِلتقط صورة لمطعمه احتفاءً بلافتته اللندنية ولقاء وجبة كبّة. أحبّ يهود المقهى الملك جورج أو ربما لم يكرهوه، بين هذا وذاك. لا يدري، فهناك حرب كبرى طاحنة يترقّبون نتائجها. أهداه المصوّر نسخة وأعداداً كاسدة من المجلة استخدمها لمسح واجهة الزجاج وتغليف الوجبات. أحبَّ زبائنه مذاق الشوربة بالبهارات ووجبات اللحم. كان إشعاع المطبخ الاستوائي واضحاً على وجباته التي أفسدتها امرأته بلمستها المصلاوية.
عندما اجتاح جيش الملك جورج المدينة خبطت قوائم خيولهم شوربته. تطلعوا وهم على نواصي خيولهم وعرباتهم إلى ما يشبه صورة ملكهم مثبّتةً في طرف اللافتة. كانت الحروف بخطوط طلاء بيض خشنة، أما رأس الملك الجانبي فيشبه نقشاً على عملة معدنيّة، ختم زنكوغراف على الخشب، بينما أحبّ الجنود الهنود طعم شوربته الحار منسّمة نكهة عظام بهائم. اِنسابت قطرات ثقيلة من أطراف ذقونهم السود الكثيفة.
لم يخطر له أن اسمه سيكون مهمّاً، هو ملك الشوربة. عندما رفع اللافتة على واجهة مطعمه الصغير، ولم يتوقع أن يضيف الخطّاط إليها رأس الملك جورج. جعلها مفاجأة كريمة أغضبته. ردَّ على امرأته وقس الكنيسة وكل من سخر منه بالقول: لو قدّر لملك إنجلترا تذوّق طعم شوربتي لتكفّل بتعميدي باسمه لا باسم القديس بطرس! ربّي يسامحكم!
تصفّح الرجل وريقاتها المفتّتة بحرص، متفادياً نظر البائع المسنّ الذي قرفص ملتفَّاً بقبّوط أسود كبير الجيوب.
سأله وهو يريه الصورة: تتذكر المطعم؟
: لا!
أجاب البائع دون اهتمام وهو يقبض ثمن المجلة. أراد الرجل رؤية صورة المطعم الرمادية الحائلة التي نشرتها صحيفة الثغر. سار مبتعداً. عنوان فخم لمطعم صغير يديره رجل مسيحي، انزوى وراء أعمدة مدوَّرة حملت شرفات من الخشب على طريق البصرة. اِكتشف أن جورج لم يكن في صورة مجلة المعرض الأقدم. توارى خلف شحوب الزجاج وفي يده ماعون صيني. ربما كانت امرأته. دلّت لمعة صيني خاطفة على وجود ما، فالصحن لا يحلّق في الفراغ. هناك رجل اسمه جورج لا وجود له. وحين دقّق في الصورة بعد ارتداء نظارته لاحظ سطح الزجاج الذي عتّمته شمس الصيف.
اِستعاد ذكرى طفولته، برفقة أمّه. هو الآخر غاب طيفه عن الصورة الكبيرة. ازدحام الشارع الضيّق بالسيارات وعربات الخيل لنقل الركاب من البصرة إلى العشّار أو صعوداً حتى المستشفى الجمهوري.
كان عائداً إلى منطقة العشّار، وقد حلَّ ملفعته. نشوة اكتشاف الصورة حرّكت دماءه، وبعد فنجان قهوة في مقهى الخبّازين، حيّره أن يغيب جورج في الصورة الأولى ويحضر في نشرها الثاني بعد عقد من السنوات، ذلك يخالف سريان الزمن وإيحاءاته. تساءل متطلعاً إلى صورة جمعت الخبّازين القدامى بزيّهم الريفي مثبّتة إلى الجدار.
لعل المصوّر اليهودي أعاد استخدام الصورة، مستعيداً ذكرى جورج الذي لم يكن له وجود. أداة التذكّر معذّبة وباردة. لم يغيّر نشر الصورة شيئاً من حظوظ الآثوري. زبائنه هم أنفسهم، من السابلة والهنود والباعة، ممن أصغى لصوت ابتلاعهم الشوربة وكل منهم يرفع الماعون ويميله بيديه الاثنتين.
راقب جورج الأسرى الإيطاليين يرصفون الشارع بالحجارة. كان خلف نضده وقدوره الكبيرة، تغطي رأسه قطعة قماش. اِنفجر اليهود جلّاس المقهى مقهقهين، وهم يمرّرون المجلة بينهم. أراح البعض منهم أرجلهم من ثقل الكاوتشات الشتوية وقالوا: الصدق أنك ملك الشوربة الرديئة!
توقّف الرجل. أتعب عينيه وذاكرتَه على السواء الإمعان في البحث عن اختلافات السنوات العشر بين الصورتين. لا شيء مفارق سوى غياب جورج من صورة مجلة المعرض. نزل معول الريبة على قناعته وهو يتطلع إلى اللافتة بين الأعمدة المدورة.
أطلَّ الملك جورج ملقياً نظرة على جحافل خيّالته الذين تشبّهوا به من خلال إطلاقهم شوارب قيصرية، موضة القرن التاسع عشر. حبّاً بإطلالته اِلتهم ضبّاطه الشوربة الحارّة فمنحهم ابتسامة ملك جائع إلى اللا نهاية.

ذو صلة